مقالات عامة

البذور

يوسف أبو لوز

لو لم أقرأ العدد الأخير من مجلة الرافد الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة، لما عرفت أن هناك فناناً تشكيلياً فلسطينياً خرج من بلاده في العام 1948، وسأعرف أنه من جيل غسان كنفاني وعمل معه، وهو صمّم حرفاً طباعياً سماه (القدس)، وتزوج من امرأة يابانية، وعاش في طوكيو، وتوفي فيها في العام 2017.
إنه الفنان التشكيلي الفلسطيني فلاديمير تماري (ولد في العام 1942، أي أنه خرج مع عائلته من فلسطين وهو في السابعة من عمره.. ذلك العمر الذي يتشرب فيه الطفل كل تفاصيل وملامح بلاده وأهله، أضف إلى ذلك تراجيديا الاقتلاع من الوطن، ومواكب الهجرة، ومنظر الرحيل إلى المجهول والخيام خارج بلاد مغسولة بالندى ومعمدة برائحة البرتقال.. ما من شأنه أن يحول الطفل إلى رسام، أو شاعر، أو روائي.
أعدّ فلاديمير تماري كتاباً بعنوان «رسوم الأطفال في زمن الحرب»، وكان لافتاً جداً أن وقعت على ما يشبه «البوستر» له يمثل نباتاً صغيراً ينمو في أرض جافة بل وأكثر من ذلك ينمو في جدار تحت هذه العبارة المؤثرة الموجهة للطفل الفلسطيني.. «..حاولوا دفننا.. لم يدركوا بأننا بذور..».. وكل طفل فلسطيني هو في حقيقته بذرة تبدأ صعود حياتها عند دفنها..
كتب غسان كنفاني للطفل بلغة رجل كبير، ومجموعة كبيرة من قصصه محورها أطفال أو فتيان ولدوا وعاشوا مثل البذور في المخيمات، أما المادة التشكيلية لفلاديمير تماري فهي تحمل روحاً شفافة.. وميسون شقير التي كتبت عنه بشغف ووصفته ب «الضوء الذي لا يموت»..
لا نعرف الكثير، حقاً، عن هذا الرسام الفلسطيني، واسمه في حد ذاته يشكل التباساً ثقافياً واجتماعياً لمن يقرأ حياة هذا الفنان الذي أخذه اغترابه إلى اليابان.. تماماً مثل الالتباس الذي شرحه البروفيسور المقدسي إدوارد سعيد، فاسمه إدوارد الذي يحمل إحالات ثقافية غربية، فيما العائلة (سعيد) بكل ما في الاسم من محمول عربي.
أياً كانت المفارقة حمل فلاديمير تماري في قلبه وروحه وعينيه مقدسيته وفلسطينيته من مدينة المدائن، إلى بيروت، إلى طوكيو، ولكي يظل مشدوداً إلى الرحم المقدسي صمم حرفاً طباعياً سماه «القدس»، والأطفال عنده مثل البذور.. ما أن تُدْفَن حتى تولد أو تنمو بخصب جديد.
على مستوى الفن التشكيلي الفلسطيني حول كل من إسماعيل شموط، وزوجته تمام الأكحل الثوب المطرز والعلامات الكنعانية اليبوسية إلى ذاكرة، بل، إلى وثيقة.. وكما أن المدونات التاريخية والجغرافية والخرائطية هي وثائق.. تتحول اللوحة التشكيلية أيضاً إلى وثيقة، وقد عرف الاحتلال «الإسرائيلي» قوة الفن عندما يصبح سنداً تاريخياً، فأخذ يدفن الأثر والثقافة والذاكرة والأشجار والبشر أيضاً.. لكن كل ذلك هو.. بذور.
«..حاولوا دفننا.. لم يدركوا أننا بذور..».. عبارة فلسطينية تشبه عبارة محمود درويش «على هذه الأرض ما يستحق الحياة..».. وتشبه أيضاً الأيقونة حنظلة لناجي العلي.
yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى