مقالات عامة

نهر الجنون

خيري منصور

لدينا في تراثنا العربي حكايات توارثتها الأجيال، تبدو كما لو أنها تقطرت من تجارب بالغة التعقيد والكثافة.
لهذا استحقت من مبدعينا المعاصرين أن يعيدوا صياغتها بما يتناغم ويتلاءم مع هذا العصر وإيقاعاته، ومنها حكاية مأمورية الزير التي أعاد حسين مؤنس صياغتها، وكذلك «نهر الجنون»، التي قدمها توفيق الحكيم بما يليق والزمن الذي عاش فيه، تماماً كما أعاد كتّاب إنجليز وفرنسيون صياغة حكايات وأساطير مع الحفاظ على شحنتها وجوهرها، كما فعل فاديه الفرنسي بصياغة أسطورة «تريستان وايزولدة»، التي تشبه إلى حد بعيد حكايات الحب العذري في تراثنا، وبالتحديد حكاية قيس بن الملوح وليلى العامرية!
ولو عاش توفيق الحكيم حتى أيامنا لربما أضاف الكثير إلى نهر الجنون، الذي شرب منه الناس باستثناء قلة منهم قرروا البقاء على قيد الوعي والعقل حتى لو ماتوا من شدة العطش!
في تلك الحكاية تتلخص الدراما البشرية وما فيها من صراع بعبارة واحدة هي إما أن تشرب من النهر الذي شرب منه الآخرون أو تدفع ثمن امتناعك عن ذلك، وبالتالي احتفاظك بعقلك الذي قد لا ينفعك في عالم من المجانين!
هذه الدراما كانت وستظل في التاريخ التعبير الدقيق عن ثنائية الاختلاف والائتلاف، خصوصاً في الحياة الاجتماعية.
لهذا غالباً ما وصف الفلاسفة والحكماء والمثقفون بأنهم غرباء حتى لو كانوا في عقر الوطن؛ لأنهم يسبقون زمانهم ويرون ما لا يراه الآخرون، لهذا قد يتعرضون جرّاء ذلك إلى عقاب يذكرنا بعقاب زرقاء اليمامة، التي رأت عن بعد ما لم يره سواها، ممن صدقوا أن الأشجار تمشي رغم أن جذورها ضاربة في عمق الأرض.
وهي وحدها التي قالت لقومها إن ما يرونه أشجاراً تمشي ليس سوى أغصان يتخفى الغزاة تحتها!
ومن يصر على احتمال العطش حتى تتشقق شفتاه كي لا يشرب من نهر الجنون عليه أن يخلع عقله كما لو كان قبعة؛ لأنه كما قال توفيق الحكيم لن ينفعه في عالم مجنون!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى