مقالات عامة

حفيف الأبجدية

خيري منصور

أصدر المفكر والرائد النهضوي عمر فاخوري عام 1922 كتاباً بعنوان: «آراء غربية في مسائل شرقية»، وكان يومئذ مطارداً من عسس الباب العالي، ومن أبرز المدافعين عن اللغة العربية ضد التتريك.
ورغم صدور الكتاب قبل ما يقارب القرن، إلا أن أطروحاته لا تزال حية، ولم تفقد صلاحيتها؛ لأنه قدم مشهداً بانورامياً لمن كتبوا عن العرب والشرق بصورة عامة، ولم يكن انتقائياً بحيث يختار ما ينسجم معه ويروق له فقط.
ومن المعروف أن بعض مخطوطات فاخوري أُلقيت في البئر أثناء المطاردة؛ لكن ما تبقى منها ارتوى بالماء مثلما ارتوى بالدم، وعاش وسيعيش دائماً، ما دام هناك ورثة من المثقفين يحفظون الأمانة، ويواصلون المسيرة في درب طويل ووعر وشاق ومحفوف بالكمائن.
والحرب الحضارية والثقافية، التي يخوضها العرب الآن بمختلف الصيغ ليست وليدة هذا العام أو هذا القرن، وليست منقطعة عن صراع لم يهدأ إلا على طريقة استراحة المحارب، وما استشعره ذلك الرائد النهضوي والتنويري قبل أكثر من قرن أثبت التاريخ صدقيته، وبقيت الهوية العربية عرضة لمحاولات المحو أو القضم أو الترجمة؛ لكنها قاومت بما لديها من حمولة تاريخية وموروث عظيم، لهذا لم يبالغ من غنى قائلاً: «الأرض بتتكلم عربي».
فما من زيتونة أو نخلة أو شجرة أرز إلا ولها حفيف عربي من صلب الأبجدية؛ لهذا أخفقت موجات التعجيم في أن تجعلنا نرطن بلغتنا، وإن كان الانحسار الذي أصاب العرب خلال عدة عقود ألحق الأذى بلغتهم إلى حدّ ما، وهذا ما يستدعي مضاعفة الجهد؛ لحراستها وصيانتها؛ لأنها ليست مجرد لغة بقدر ما هي جذر هوية، وفي غيابها يقف العربي كما وقف المتنبي ذات يوم غريب اليد والقلب واللسان!
والعرب الذين كان تعدادهم قبل نصف قرن مئة مليون أصبحوا الآن ثلث مليار، ويشغلون مساحة تمتد على قارتين، لهذا فهم الآن أكثر تأهيلاً لحراسة الهوية واللغة والحدود، وأي استخفاف بهم هو رهان تاريخي خاسر!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى