مقالات عامة

ماذا يحمل العام الجديد؟

د. عمر عبدالعزيز

يكاد المراقبون يجمعون على أن العام الجديد 2018 يمثل امتداداً منطقياً للعام السابق 2017، ويرون أن التراجيديا الإنسانية ستزداد تفاقماً وعسراً خلال الأشهر والأيام القليلة القادمة، وذلك استناداً إلى جملة التدابير الخائبة التي لم تفلح في حلحلة سلسلة من الملفات الثقيلة في العالم، أبرزها ملف الإرهاب الذي تحول من سيناريو يتم التحكُّم فيه من قبل صُنّاع الواقع التراجيدي المؤلم، إلى حقيقة تفلت من سيطرة مهندسي الفعل. ولعل الأمثلة الثلاثة الأكثر وضوحاً في هذا الجانب تكمن بدايةً في حرب أفغانستان الأولى، عندما تدافع «المجاهدون» بترتيب من واشنطن لتصفية الحساب مع النظام الشيوعي الموالي لموسكو، فتحوَّل هؤلاء بين عشية وضحاها إلى «مجاهدين» ضد أنظمتهم وداعميهم، وهو ذات الأمر الذي حدث في الصومال، فمن رحم المحاكم الإسلامية خرج أفتياء المجاهدين الشباب الذين ما زالوا يقارعون سلطة العاصمة مقديشو، ويعطلون مسار الحكومة الشرعية هناك، وسنرى ذات الأمر في اليمن، فالمتطرفون الحوثيون خرجوا أصلاً وأساساً من رحم النظام السابق، ليكونوا أداة بيد النظام ضد مشروع الإسلام السياسي، فيما استخدم النظام «القاعديين» من الأفغان العرب ليصفي حساباته مع الحزب الاشتراكي اليمني وتجربة الجنوب، فقد مثل هؤلاء رأس الحربة الطاعنة للجنوب في حرب 1994.
بهذا المعنى تحولت «الحرب العالمية ضد الإرهاب» إلى حرب ضد الذات، وانكشف التهافت الكبير في الاستنسابات السياسية التي أدارت أمور العالم بمنطق «الفوضى الخلّاقة» وإدارة الأزمات بالمزيد من التأزيم.
هذا يجر إلى استنتاج كبير يتعلق بالحروب الإقليمية المتجولة، والتي قد تستمر على ذات الوتيرة لتشهد تحولاً من كونها حروباً بالوكالة إلى التصادم المباشر بين مراكز إدارتها ودعمها، كما قد يحدث في الشرق الأوسط، وتحديداً في سوريا واليمن وليبيا، وكما قد يحدث في جنوب شرق آسيا إذا ما استمر التهديد المتبادل بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية. وفي كل الأحوال لن تظل موسكو وبكين في موقف المتفرج، خاصة أنهما تمكنتا من انتزاع مكانة خاصة في الإدارة السياسية والعملياتية في البؤر الساخنة. فقد تمكنت روسيا من الحضور الأشمل في الملف السوري، فيما تطلق الصين مبادراتها الاختراقية الكبرى على خط التجارة والاستثمار الدوليين، في ذات الوقت الذي تعيش فيه أوروبا الشرقية ارتكاساً شاملاً نحو سياسات قومية عنصرية متصاعدة في أوكرانيا وبولندا والمجر، وتزدهر فيه أحزاب اليمين الشوفيني منذرة بنزعات انفصالية حادة في شرق وغرب أوروبا، ومن شواهدها البارزة الحالتان الإسبانية والبريطانية، حيث يطالب إقليم كتالونيا وإسكتلندا بالانفصال عن البلد الأُم، في إشارة توحي باستعادة خريطة الدول القومية السابقة للحرب العالمية الثانية، التي شكلت المقدمة لحروب أوروبا التاريخية.
تنامي اليمين القومي يمثل تحدياً كبيراً للذاكرة الأوروبية التي تخطَّت عهود الانقسامات الاجتماعية، والخلط التعسفي بين الدولة والدين، وانتشار ثقافة الكراهية المتبادلة، وصولاً إلى انتشار النظريات العنفية بشقيها النفسي والمجتمعي.
الانسحاب البريطاني من الاتحاد الأوروبي يمثل جرس إنذار يوازيه التباعد الإجرائي لتركيا، بالترافق مع استعادة الروح الطورانية، وذاكرة الإمبراطوريات التاريخية، وبالترافق مع ذلك تستعيد الروح السلافية ومركزيتها الروسية المجبولة بالأرثوذكسية الدينية تاريخاً متقادماً من التنافي العدمي بين مسيحيات الشرق والغرب، وتفتح الباب واسعاً لمتوالية الخلافات الدينية والعرقية ممثلة في الثلاثية الأرثوذكسية والبروتستانتية والكاثوليكية، ومتوازياتها السلافية الأنجلوسكسونية اللاتينية.
من المحتمل أن يشهد العام الجديد انبثاقات من هذا القبيل، وسيكون لهذا الأمر أثر مباشر على الولايات المتحدة التي تُلخِّص كامل هذه التركيبة، بل تتجاوزها حد التقطير، والشاهد على ذلك خروج عصابات «الكوكلوس كلان» العنصرية من جحورها، وتزايد الخطاب العرقي المُتفلِّت، وعلى لسان كبار المسؤولين في البيت الأبيض.
وبالرغم من هذه الصورة الكئيبة للتوقعات السياسية الدولية إلا أن اقتصاد المعرفة، والمدهشات الرقمية، وفتوحاتها العالية في الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ستقدم الخيار الأمثل للبشرية، وستجعل الذاكرة الجمعية العاقلة في وارد مُحاصرة البلايا واستبدال العنف والعنف المضاد بما ينقذ الإنسان من متاهته التي يصنعها بيده.

omaraziz105@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى