باللبناني…”قرفتونا”
يارا الأندري
ليت السياسيين في لبنان يقولون جميعهم دون استثناء في العلن ما تتفوه به ألسنتهم من كلام واتهامات مسمومة عن بعضهم البعض في السر. ليتهم ليوم واحد يعجزون عن الكذب والتكاذب والنفاق ومحاباة خصومهم.
ما قاله وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل قبل يومين وتسرب إلى الإعلام هو ما يقوله العديد من اللبنانيين في جلساتهم عن رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي بنى كما غيره تماماً من المسؤولين “إمبراطورية” خدمات لـ”أزلامه”، ولعل مجلس الجنوب وأهله أدرى.
ولا شك أن الصفات أو الكثير منها التي نعت بها باسيل من قبل الجمهور المضاد في حملة “الجلد” هذه حقيقية أيضاً، وليس أقلها نزعة “التفرد” التي تجلت بوضوح يوم ترأس التيار الوطني الحر “تعييناً”، رغم اعتراض العديد من المناصرين وخروجهم أو إخراجهم إثر ذلك من الحزب وهم الذين كانوا في الأساس من نواته.
خلال الحرب اللبنانية “تناتش” أمراء الحروب المناطق اللبنانية، “تناتشا” لا بل “تكالبا” بأبشع صوره ولم يفرقوا حتى بقناصتهم مدنياً أو عسكرياً ميليشياوياً لكن الأمر لم يختلف كثيراً بعدها!
إذ خلع أولئك المحاربون بذاتهم العسكرية وأسلحتهم، وتحولوا سياسيين ونوابا ووزراء. جلست تلك الوجوه التي سال الدم حتى الركب بينها باسمة، بعد أن غسلت يديها، وتبرأت من جرائمها تحت ألف مبرر ومبرر، دون كلمة اعتذار أو “تمثيلية” محاسبة.
جلسوا جميعهم معا، فوق الجثث التي راكموها، بعد أن راح ضحية حروبهم العبثية الآلاف، بعضهم لا زال أهله يبحث حتى اليوم عن بقايا رفات “يحد” فوقها، ويذرف ما تبقى له من دموع على ما تبقى من “بعضه”.
أمراء الحروب أضحوا زعماء وأمراء طوائف “يرعون” قطعانهم بحسب ما تقتضي حاجات الزعامة، يشدون تارة “العصب” الطائفي ويرمونه بحسب ما تقتضي الظروف وفِي طليعتها الانتخابات.
فعلوا فعلتهم هذه في كل المناسبات وعند كل منعطف، لم يتركوا قطاعا يعتب عليهم، من الزواج المدني والأحوال الشخصية إلى التوظيفات والتعيينات والترقيات، في كافة دوائر الدولة وما لف لفيفها.
وكرروها مرتين، وعشراً، وعشرين، ومئة بوقاحتهم حتى أضحت عرفا!
ما يجري اليوم بين التيار الوطني الحر (الذي يرأسه باسيل بعد أن كان يتزعمه ميشال عون) وبين حركة أمل (يتزعمها نبيه بري) ليس مجرد شجار عابر أو عداءات شخصية بين رجلين (بري وعون) لم يكن بينهما في أي يوم مضى “ود”، فلا الأول يمكن أن “يهضم” الثاني والعكس صحيح.
ما يحصل بين الرجلين أبعد من خلاف على مرسوم لترقية ضباط “تابعين” لعون ظلموا أيام الاحتلال السوري ولا قصة تخطي إمضاء وزير شيعي من قبل رئيس مسيحي… أو لعل في تلك الأخيرة ما يعطي لمحة عن الصورة الأكبر!
ما يجري صورة مصغرة عن قباحة “المحاصصات” التي شلعت البلاد، إنه صراع أحجام بين “طوائف ومذاهب”، في بلد أنهكته حروب الطوائف على مدى سنوات.
أما اليوم والآن، فقد آن الأوان ليعترف الزعماء في لبنان بحقيقة الأحجام، وأن المسيحيين باتوا أقلية وأن لعبة المناصفة أضحت منفصلة عن الواقع، وستولد في كل مرة مشاحنات وخضات وأزمات.. وأن المحاصصة على تلك الطريقة أضحت أكثر من مفخخة.
كما بات لزاما تماما على كل تيار أو حزب أو سياسي… أو .. أو.. أن يتوقف عن الاستقواء بعضلاته أو عضلات جارته أو حليفه و سلاحه، أو كبر طائفته وحجمها، ويوقف تغطرسه، وفائض القوة لديه.
آن الأوان ليعي الجميع أن لبنان هو “ذاك المكون الغريب” بتنوعه هذا، وأنه من الهستيريا بمكان أن تكرر نفس الأفعال متوقعا نتائج مختلفة.
بات لزاما علينا من أجلنا ومن أجل أولادنا أن ننحو إلى نظام مدني بالكامل من أصغر موظف إلى أكبره.. مبني على الكفاءات وليس المذاهب.
نظام لا يشبه وجوه أولئك السياسيين الذين لم يتغيروا منذ سنوات طوال.
لا أريد مارونيا أو كاثوليكيا “أزعر” في أي مؤسسة حكومية.. ولا شيعيا “بلطجيا” أيضا، أو سنيا “سارقا” ، أو درزي أو انجيلي، ومن أي مذهب آخر مرتش أو فاسد لأي “قطيع” انتمى.
وبعد… لعل الأفظع حملات “النباح” التي انطلقت ولا تزال تستعر بين الطرفين على وسائل التواصل وحتى الإعلام، ما أعلنته حركة أمل في بيناها الاثنين رداً على باسيل، معتبرة كلامه “دعوة مفتوحة لفتنة ستأخذ بطريقها كل ما أنجز على مستوى البلد وتذكرنا بحروب التحرير والإلغاء”
هكذا إذا .. أضحى مجرد فيديو تافه عبارة عن دعوة لفتنة .. وما الحروب المستعرة الآن “افتراضيا” على مواقع التواصل بين شيعة ومسيحيين إلا لخير دليل على “الإفلاس وعدم الجدوى” التي وصلنا إليها كقطعان طائفية في تلك الدولة العميقة.
وختامها كلمة.. لربما أراد السياسيون أن يعوا ما يقوله معظم الشعب اللبناني عنهم جميعا دون استثناء وإن بدرجات… “قرفتونا”!