مقالات عامة

نخبوي أم جماهيري؟

د. حسن مدن

المعرفة سابقة للكتابة. كان لدى البشر معارف وخبرات وتجارب، وحتى أشعار وأغانٍ، لكنهم لم يكونوا يعرفون الكتابة. لم يكن بوسعهم أن يدونوا ما يعرفونه، بل أن نصاً ينسب إلى سقراط يتحدث عن الآثار المضرة للكتابة ونتائجها السلبية على الذين يمارسونها، لأن أرواحهم ستصبح كثيرة النسيان، لتوقفهم عن استخدام ذاكرتهم بوضع ثقتهم في المكتوب، حيث سيكفون عن الاعتماد على أنفسهم في التذكر.
الضجة التي أثيرت ضد الكتابة بحجة أنها ستقوَّض قدرة الفرد على التذكر، عادت لتنشأ ضد الطباعة. فكما أن المعرفة سابقة للكتابة، فإن الكتابة سابقة للطباعة، ولذلك حين اكتشفت المطبعة نالها هجوم كذاك الذي نال الكتابة لحظة أن تملكها الإنسان.
قيل، إن المطبعة سوف تنهي احتكار النخبة الموهوبة للمعرفة الراقية، وسيصبح بوسع كل من هبَّ ودبَّ أن يقرأ لأن المطابع طرحت الكتب في الأسواق والمكتبات العمومية، وسيصبح بوسع جمهور أوسع من الناس لا يملك ما هو كافٍ من معرفة وما هو ضروري من ذائقة لكي يقرأ ما تضخه المطابع، وبالتالي ستخرج الثقافة من دائرة الرقي التي هي عليها لتصبح مشاعاً ما سيؤدي إلى النيل من قيمتها.
هذا بتصرف وإيجاز ما يورده منجي الزيد في كتابه «جماهير الثقافة» وهو يعرض لسجال دار بين اثنين من وجوه مدرسة فرانكفورت حول نخبوية أو جماهيرية الثقافة، في إطار حديث عن تحدٍ جديد تجابهه الثقافة النخبوية مشابه للتحديات التي واجهتها حين اكتشاف الكتابة ومن ثم اختراع المطبعة.
هذا التحدي الجديد تمثله وسائل الاتصال الجماهيري الآخذة في التوسع والانتشار، ما أدى ويؤدي إلى مضاعفة تأثيرها وتنويع منتجاتها. لكن السجال حول جماهيرية الثقافة أو شعبويتها لم ينشأ مع انتشار تأثير وسائل الاتصال الحديثة ضمن ما وصف بثورة المعلومات، ذلك أن مفهوم «الثقافة الجماهيرية» غدا منذ عقود طويلة شائعاً في علم الاجتماع وفي علم اجتماع الثقافة خاصة، وربما يكون ذلك قد بدأ مع ظهور الإذاعة وتالياً التلفزيون، حيث خاب رهان المثقفين في أن يصبح هذان الاختراعان وسيلتين من وسائل الرقي بوعي وذائقة الجمهور.
دون أي تقليل من تأثير الإذاعة والتلفزيون الإيجابي والتغييرات التي أدخلاها على سلوك الناس ووعيهم وطريقة قضائهم لأوقات فراغهم، فإن الدارسين لدور وأثر الثقافة يلاحظون بالكثير أو القليل من الحسرة أن أغلب من يستمعون إلى الإذاعة أو يشاهدون التلفزيون ميالون لسماع ومشاهدة البرامج الترفيهية والمسلية التي لا تتطلب جهوداً ذهنية خاصة أو مستويات من التركيز لازمة لتلقي البرامج التربوية أو ما يندرج في خانة ما يعرف ب «الثقافة الراقية».
وسائل الاتصال الحديثة لن تقصي الإذاعة والتلفزيون أو تنهي دورهما، ولكنها مثلهما تخاطب الوعي الاعتيادي اليومي الميّال للمسلي والنافر بطبعه مما يتسم بالجدية، أو يصنف بها.

madanbahrain@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى