البوصلة الشعبية

خيري منصور
الشعوب بفطرتها وما تقطر عبر أجيال من تجاربها تميل إلى السخرية من كل ما له علاقة بالتصنع والافتعال، ولديها مصفاة محكمة للفرز؛ لكنها أيضاً تدخر من الحيلة ما يكفي لتجنب مواقف يساء فهمها، وما لم تتعرض البوصلة الشعبية إلى التلاعب بالسهم والجهات معاً، فإنها نادراً ما تخطئ، وهناك أمثلة تحضرني في هذا السياق منها ما يطلقه الناس العاديون على الندوات المتكررة والتي تسود فيها نبرة الحذلقة والاستعراض، وهو أنها مكلمة والمفردة مشتقة من الكلام، وأحياناً يشير أحد الأشخاص الظرفاء إلى رأسه قائلاً: نسيت أن أرتدي الفهامة إذا سمع من يخاطبه برطانة لا يفهمها، وفي أيامنا هذه كثر عدد المفردات الهجينة التي يتداولها أشباه المثقفين، وأصبحت البلاغة مجرد مساحيق تجميل لغوية يغطى بها الجهل كقناع، لكن ما إن تسطع الشمس حتى تذوب المساحيق تماماً كما ذابت أجنحة الشمع عن ايكاروس اليوناني ولم يقاوم جاذبية الأرض فسقط مضرجاً بدمه!
وأحياناً نتذكر عبارة فيكتور هوجو الشهيرة عن سلة البيض الفاسد، فليس من المعقول أن نلتهم البيض الفاسد كله ونتسمم به لنتأكد من أنه فاسد، فبيضة واحدة تكفي تماماً كما أن عبارة واحدة تكفي للدلالة على منسوب الوعي أو عينة واحدة من الدم للفحص!
والقول إن خداع الناس كلهم وإلى النهاية أمر يمكن إدراجه مع المستحيلات بحيث يكون رابعها، فالخداع كما الكذب حبله قصير، وما لا يتكشف اليوم سيصبح مقروءاً بوضوح غداً أو بعد غد.
وإذا كان محترفو الخداع يراهنون على دوام الأمية فإن رهانهم خاسر وستأتي اللحظة التي تستخدم الشعوب غربالها النقدي الصارم لفرز قمح الحقيقة عن زؤان الخداع، لكن إلى أن تأزف تلك اللحظة يقع البعض ضحايا في كمائن الحواة وبائعي السراب لمن لا حول لهم ولا قوة!