مقالات عامة

أمكنة في القلب

يوسف أبو لوز

لا تحمل الشوارع أسماء رموز وشخصيات وطنية وتاريخية وقيادية، فقط، بل، وتحمل أيضاً شخصيتها وطبيعتها المكانية، كأن يصبح الشارع مكاناً أليفاً، وفضاء معتاداً للتأمل والمشي والهواء الطلق، بل، ومكاناً للأفكار وحوار الذات، ومكاناً آخر للقيا والتعايش، وقراءة وجوه المارة وألفتهم المتبادلة.
يصوغ شارع عبد الناصر في الشارقة ألفته نحوك سريعاً، وأنت تقطعه في أقل من خمس عشرة دقيقة، وتتذكر على امتداده دفء البيوت التي سكنتها، أو تتذكر بيوت أصدقائك وضيوفهم وضيوفك.
في ثمانينات القرن العشرين زار رسام الكاريكاتير ناجي العلي الإمارات، وكانت ليلة هادئة رائقة في بيت أحد الأصدقاء في شارع عبد الناصر عرفنا خلالها عن قرب روح صاحب حنظلة الذي كان مُرّاً كالحنظل عندما يسخر من «الترهل» الذي حوّله في رسوماته إلى فكرة ومفهوم موضع نقد وإدانة دائماً، ما كان سبباً في اغتياله، وإلا لماذا يطلق الرصاص على رجل وديع نحيل كل قوته كانت في يديه.. في ريشته، وفي خطوطه؟
شارع الحمراء في بيروت شارع قصير، ولكن كانت له في سبعينات القرن العشرين خاصية التمدد= إن أمكن الوصف= وذلك بتمدد مقاهيه الملمومة العائلية، والعائلية هنا بمعنى رفقة الكتّاب والشعراء والفنانين.
شارع المتنبي في بغداد، كان شارع الكتب والمكتبات وسمّيت، في مقالة سابقة أصحاب تلك المكتبات ب«المكتبجية» وواحد منهم أرسل لي في العام 1985 رزمة كتب من بينها المجموعة القصصية النادرة «المملكة السوداء» للكاتب العراقي محمد خضيّر.
يتأثث أحد شوارع تونس العاصمة بالعصافير والأشجار على طول مستقيم أليف يفضي إلى «باب البحر»، حيث تتجاور المقاهي، والياسمين عالق على رؤوس الرجال، وهم يلعبون الورق والنرد.. وفي العام 1995 حظيت بالسفر إلى تونس على طائرة كان من بين ركابها محمود درويش الذي اصطحبني من يدي إلى فندقه، وهو كان الأدرى بطيور وأشجار ذلك الشارع.
ثمة «مروحة» شوارع تدور من ميدان «طلعت حرب» في القاهرة، وهنا تتجاور المكتبات، والمطاعم، ومحالّ الحلوى، ودكاكين الثياب، وعلى الأرصفة باعة وجرائد وناس «رزقهم على الله».
أشرب القهوة قبل شهور وللمرة الأولى في حياتي أزور فيها مصر في مقهى «ريش»، وأشتري كتباً من مكتبة مدبولي ومن الهيئة المصرية للكتاب.. حقيبة كتب كاملة من الهيئة بسعر رمزي جداً.. والفضل في ذلك إلى البطاقة الصحفية للصديق الشاعر كمال عبد الحميد الصادرة عن نقابة الصحفيين المصريين.
تعطيك الشوارع الأليفة كينونتها المكانية بسرعة، فتعشق أولاً المشي، ويذوب الوقت من الصباح وحتى الظهيرة.. ولا بدّ أن تعود إلى فندقك كل يوم بكيس من الكتب وشيء عزيز من نبض الناس.. وطيبة قلوبهم.

yabolouz@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى