طواحين الصور
يوسف أبو لوز
في العام 1880 ظهرت أول صورة صحفية في العالم في صحيفة «ذا ديلي جرافيك» في نيويورك بالأبيض والأسود، بالطبع لكن التصوير في حد ذاته كمهنة ظهر قبل الصحافة، وتقول الموسوعة الحرة، إن مصوراً مجهول الهوية التقط صوراً شمسية على ألواح فضية للقوات الأمريكية أثناء الحرب الأمريكية المكسيكية في العام 1847، وكانت الصورة الصحفية وما زالت تعادل ألف كلمة، وبعض الصور الصحفية ترفع اليوم بوصفها وثائق وأدلة دامغة على الإبادات ومجرمي الحرب.
من قرأ هذه الفقرة أعلاه ممن يسمون الصحفيين المخضرمين أو صحفيي النصف الأول من القرن العشرين يعودون بالذاكرة إلى الرحلة الطويلة التي تقطعها الصورة حتى تصل الصحيفة وتنشر في اليوم التالي، وهي ليست رحلة طويلة فحسب؛ بل أيضاً متعبة.
اليوم في أقل من دقيقة وربما في ثوان معدودة، يمكن للصحفي أن يرسل مادته وصوره إلى جريدته وهو يتناول الإفطار في مطعم ناءٍ في قرية في الصين إما عن طريق كمبيوتره المحمول أو هاتفه الجوال الذي يسجل ويصور في الوقت نفسه، الأمر الذي أوجد الكثير من الصحفيين في العالم، وبخاصة من جيل الشباب ليسوا منضمين إلى كادر وظيفي في صحف؛ بل، يشتغلون ربما إلى حسابهم الخاص، وقد يكون البعض منهم أكثر حرفية من الصحفي الموظف في جريدة أو مؤسسة؛ لكن كل ذلك لم يأت فجأة، وبيننا وبين أول صورة في «ذا ديلي جرافيك» 138 عاماً.. الغالبية منها كان بطيئاً في المهنة، وما هذه السرعة الفائقة في نقل الصور والخبر سوى نتاج أقل من عقدين من الزمن.
الصورة وثيقة وتاريخ أيضاً.. إنه تاريخ صامت، ولكن قراءة الصورة (..في اللغة الصحفية شرح الصورة..) تتكلم تلك البطاقة بالأبيض والأسود التي ظهّرها مصور مبتدئ في غرفة معتمة تفوح برائحة الأحماض.
مازال البعض إلى اليوم يقشعر بدنه من صورة الصبية الفيتنامية التي تركض في الشارع وقد حرّقها النابالم الأمريكي في النصف الأول من القرن العشرين.. قرن الصور بامتياز قبل أن يقضى على اللون الأسود والأبيض.. صور ناجازاكي وهيروشيما، صور حروب هتلر، صور دخول العصابات «الإسرائيلية» إلى فلسطين، صور الانقلابات البيضاء والحمراء وغير ذلك من صور تتكلم حتى اليوم.
اللون بطل الصورة الحديثة في الصحافة، وكلما كانت الألوان نقية كان كلامها أكثر نقاءً، ومرة ثانية، صورة واحدة في العرف الصحفي تعادل ألف كلمة، أي بحجم أكثر من نصف صفحة.
هكذا كانت ثورة الفتى الفلسطيني محمد الدرة، وصورة أجمل طفل غريق نبذه البحر بعيداً عن وطنه سوريا رأفةً به كي لا تبتلعه الحيتان، وهكذا صورة انهيار جدار برلين، ودخول الأمريكان بالتصوير البطيء إلى بغداد.
طاحونة الصور العالمية أو صور العالم ما زالت تدور وتدور.. ملونة تماماً، وتماماً مُظهَّرة باللون الأحمر.
yabolouz@gmail.com