مقالات عامة

الهروب من فخ الكلام

محمد عبدالله البريكي

صمت المبدعين هو الصمت الحقيقي، واللغة التي تفوق الكلام والكتابة، الصمت هو أصل الإبداع، فالبوح يحتاج إلى كتابة الكثير من الكلام على صفحات وصفحات، غير أن الصمت بلغته المعجزة يحكي كل شيء من دون الوقوع في فخ الكلام وبأبلغ الدلالات، وفي الصمت حكايات وحكايات، فقد يبكي الإنسان من الداخل ويصرخ دون صوت ويعاتب كل شيء بنظرة غارقة في السكون، وقد يتخذ المرء موقفاً صارماً من كل شيء حوله دون أن يحاوره، كل هذه الأنواع من الصمت جائزة في عرف الحياة، لكن صمت الشاعر هو الذي يفجر الينابيع ويكسو الصحراء ويطير إلى السماء ويتسلق الأشجار ويحاور الطيور ويغوص في البحار ويهمس إلى المحيطات، فالشاعر يصمت بلسانه لكن روحه تتكلم وتعلن في الخفاء ما يلتصق بالذات، وفي دنيا الشعراء نجد أن بعضهم يكتب القصيدة ويتركها يوماً أو بعض يوم، فيحدث نوع من العلاقة الصافية بينه وبين هذه النطفة الروحية ثم يعود إليها بعد صمت عميق، صمت تتخلله صور من نوع آخر، صور خفية تأججها لغة الصمت المريبة والتي تتجاوز الشيء الملموس في السر، في هذا الصمت بين الشعر والشاعر.
قد يكتب الشاعر قصيدة على عجل عندما تواتيه اللحظة الإبداعية، لكنه حين يكتب قد يرى ما كتب شيئاً عادياً فيهجره بالصمت ثم يعود إليه ليقرأ من جديد فيجده كلاماً آخر غير الذي كتبه والذي لم يكن مقتنعاً به، في هذه اللحظة يحاول أن يطيل فترات الصمت حتى يتأكد من أنه يحتاج إلى أن يكتب القصيدة مرة أخرى لكن بروحه في هذه الحالة، ثم يعود بروح جديدة وحالة يقينية بأن ما كتب يستحق الخلود، وقد استطاع شعراء الحوليات أن يكتبوا قصائدهم في مدة طويلة، وبين كل بيت وبيت حالة من الصمت المريب التي تدفع إلى التجويد، وبعد طول صمت تنطلق روح الشاعر لتسترسل في فضاء الشعر وهكذا كتب شعراء الحوليات أجمل أشعارهم، وهم في حالة من الصمت العام، الصمت المستدام الذي يولد هذا الشعر الخالد على مر الدهر.
الصمت قصة عجيبة في ديوان الشعراء الذين وصلوا إلى القمة بصمتهم الذي قال كل شيء دون أن يكتب أو يقرأه أحد إلاّ في لحظات الصمت المتأجج، وقد ملك الشعراء كل ألوان البيان عندما اختاروا الصمت في الكتابة، فأعظم القصائد قد كتبها الصمت والاحتجاب عن الناس وهجرهم وربما هجر الحيطان والشوارع والبيوت وكل الأمكنة، فالهروب بالصمت أو إلى الصمت هو الرحلة الوجدانية التي تتسع في هذا الكون، فهو كنز الكنوز الخفية ومملكة الإبداع التي تسكنها شياطين الصمت وملائكة النور التي لا تتكلم لكنها تبوح بالصمت.
الصمت يحتاج إلى أن يكون مدة أطول، لأن السكوت نسبي لكن الصمت أبلغ، وقد قال الشاعر فاروق جويدة في قصيدته وكلانا في الصمت سجين: لن أقبل صمتك بعد اليوم/ لن أقبل صمتي/ عمري قد ضاع على قدميك/ أتأمل فيك/ وأسمع منك/ ولا تنطق.
وقال نزار قباني: كلماتنا في الحب تقتل بعضها/ إن الحروف تموت حين تقالُ.
الصمت هو الشعاع الذي يخترق ويسافر في مناطق لا نهائية، والشاعر يستطيع أن يجعل صمته قصيدة، فهو البلاغة البليغة التي تجود بها اللحظة وإن طالت سنين وسنين.

hala_2223@hotmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى