من القلب أو الدماغ
د. حسن مدن
أيأتي إبداع الفنانين والأدباء من قلوبهم أو من أدمغتهم؟
هذا ما يفرد له الدكتور زكريا إبراهيم حيزاً في كتابه «الفنان والإنسان». ونستشف من عرضه أننا إن ذهبنا إلى القول، إن الإبداع يأتي من القلب، لتخيلنا أن الفنان مجرد يد تخط ما يمليه عليها القلب، وأنه ليس لدماغه، ولا لما يتجلى منه من أفكار من دور في الإبداع، وهو ما يعني، في صورة من الصور، ازدراء العقل وما ينطوي عليه من طاقات إبداعية.
فالقول إن الفن نتاج القلب، يعني أن كل من يتسمون برهافة العواطف وكثرة الانفعالات هم بالضرورة مبدعون وفنانون، وهو أمر ينفيه الواقع، فما أكثر العاطفيين ورقيقي المشاعر من الناس العاديين، الذين ليسوا بفنانين ولا مبدعين؛ لكنهم يغمرون من حولهم بالعاطفة والحب والحنان.
وبالمقابل فإن الحياة ترينا نماذج ممن يوضعون في خانة الفنانين والمبدعين، وهم جديرون بأن يكونوا فيها حكماً من مستوى ما يبدعون من كتابات أو لوحات أو تماثيل، فنجدهم في حياتهم الواقعية غلاظ القلوب، قساة في تصرفاتهم حد العنجهية والغرور، وما أكثر من قرأنا لهم كتبهم، وأُخذنا بها، وربما تأثرنا بما فيها، وتركت في حياتنا من الآثار ما يعتد به، ولكننا ما إن نلتقي بهم وجهاً لوجه، حتى نصدم بما هم عليه من غلظة وثقل دم، حتى لنكاد نشعر بقطيعة كبيرة بين ذواتهم وما أبدعوه، ونخال أن هذا الإبداع من وضع آخرين سواهم.
إلى الكاتب الفرنسي الشهير بلزاك ينسب القول إن «الفن يصدر عن الدماغ لا عن القلب»، وهو في هذا القول يتقاطع مع رأي مالرو القائل، إنه إذا كان الفنان ذا عاطفة كبيرة فهو بالضرورة فنان حساس، فإن أشد الناس حساسية ليسوا بالضرورة فنانين؛ إذ لا يكفي أن يكون المرء رومانسي النزعة ليصبح روائياً، أو أن يعشق التأمل ليصبح شاعراً.
ربما نخلص من هذا إلى أن الفنان هو في نهاية المطاف شخص عادي في مشاعره وأحاسيسه؛ لكن ما يميزه عن بقية الناس هي الموهبة المعطاة له بمعرفة كيفية تنظيم عواطفه، وبالقدرة على تطوير مَلكة تجسيد الانفعالات، التي يمر بها الناس جميعاً، الذي هو ليس أكثر من واحد منهم، مثلهم يفرح ويحزن، يتفاءل ويحبط، ومثلهم تتنازعه مشاعر القوة والضعف تبعاً للمؤثرات من حوله.
الفارق بين الفنان والإنسان العادي، بكلمات زكريا إبراهيم «لا يمكن أن يكون مجرد فارق في شدة العاطفة؛ بل هو فارق نوعي يتجلى في القدرة على الصياغة، أو البراعة في الصنعة»، ليخلص من ذلك إلى «أن العمل الفني يصدر، وبنسب متفاوتة، عن كل من الدماغ والقلب»، شريطة أن يبقى الفنان مالكاً لانفعاله، وألّا يترك لقلبه أن يلعب برأسه، أو يجعله يفقد صوابه.
madanbahrain@gmail.com