الوحدة أم العزلة؟
د. حسن مدن
يُفرق الفيلسوف الألماني الشهير مارتن هايدجر ( 1889 – 1976) بين الوحدة والعزلة.
نحن غالباً نتعامل مع الأمرين كما لو كانا شيئاً واحداً. عندما ترد صفة الوحيد، ونحن نطلقها على شخص ما، فإنها غالباً ما تقترن في أذهاننا بالعزلة، فبما أنه وحيد فإنه منعزل.
ويظهر لنا أن الوحدة هي محض شعور داخلي عند الإنسان، يشعر به وحده؛ إذ يمكن له أن يكون في قلب الضجيج، ومحاطاً بالبشر من حواليه؛ لكنه، رغم ذلك، يحس بالوحدة، فلا أحد ممن هم حواليه قادر على كسر الشعور بها، الذي ينتابه. وبالمقابل فإنه يحدث أن يكون المرء في حالٍ من العزلة عن الآخرين، دون أن ينتابه الشعور بأنه وحيد، أو أنه مدفوع برغبة في كسر عزلته، حتى يكون قريباً من الآخرين.
ليس الأمر كذلك بالنسبة لهايدجر الذي عُرِفَ عنه ولعه بالعيش في القرى البعيدة في قلب الغابة السوداء، بعيداً عن صخب المدينة وصرامة أنظمة العيش فيها؛ حيث انتخب لنفسه كوخاً خشبياً وجعل منه مكاناً لإقامته وسط الطبيعة، وهناك كان يجد سلواه في مجاورة الفلاحين، والإصغاء لأصوات الطبيعة الفاتنة من حوله، وبين الحين والآخر كان يقوم بجولات في المسالك الريفية القريبة من كوخه، وهي جولات تجلب لنفسه المسرات التي يحتاج إليها، وتطلق في نفسه ملكات التأمل التي ينشدها.
يقع هذا الكوخ الخشبي، وبوصف هايدجر نفسه، في العمق الضيق للوادي على المنحدر المواجه الوعر أيضاً؛ حيث تنتشر بكثرة القرى ذات السقوف الكبيرة المائلة، وعلى طول المنحدر تصعد حقول الرعي، وتمتد سماء صيفية صافية وفي فضائها المشع يرتفع صقران يرسمان دوائر واسعة.
ويظهر هايدجر استغراباً من اندهاش أصدقائه، سكان المدن، من ميله للعزلة في هذه الغابة النائية بين الجبال؛ لأنه فات هؤلاء الأصدقاء، أن ما يعيشه هناك ليس العزلة نفسها، وإنما الوحدة، موضحاً الفرق: في المدن الكبرى بوسع الإنسان أن يكون منعزلاً وبسهولة متناهية أكثر مما في أي مكان آخر، فما أكثر البشر المعزولين أو المنعزلين في هذه المدن على ما فيها من صخب وضجيج وإيقاع سريع إذا ما قورن ببطء العيش في الريف.
لكن هؤلاء رغم عزلتهم لا يحققون ما ينشدونه من وحدة، ولهذه الأخيرة نفوذها المتميز جداً في ألّا تجعلنا منعزلين؛ بل بالعكس هي تلقي بحياتنا بجوار كل الأشياء. «في المدن، يقول هايدجر، بإمكاننا أن نحصل على الشهرة السريعة من خلال الصحف والمجلات؛ لكن هذا هو الطريق المؤكد للسقوط في هاوية النسيان».
هل الرغبة في هجران المدينة، وعقد صداقة مع الغابات والريف لها علاقة بكون هايدجر فيلسوفاً؟
علينا ألا نفاجأ حين تكون الإجابة بنعم؛ لأنه يرى أن عمله، كفيلسوف، لا يختلف كثيراً عن عمل المزارع في حرث الأرض وزرعها.
madanbahrain@gmail.com