مقالات عامة

فكّ عُقد التعقيد

عبد اللطيف الزبيدي

قال القلم: أعلم سلفاً أن المبحث قد يزعج، فليس مستحبّاً طرح القضايا المتقاربة تباعاً، ولكن لغتنا في خطر، فهل للضمير أن يسكت، وللتحذير بالنذير أن يصمت؟ قلت: إن أهل العربية والمناهج سينتفون الشعر، ويشقّون الصدر، فإن أسرفت فلن أطيق عليك الصبر.
قال: مهلك، رويداً، فسوف أطرح مسألة لم يهتد إليها أحد، فإن ادّعى إنسيّ أنه رآها أو تراءت له أو سمع بها، فليدلّني أين، حتى أراها رأي العين. السؤال يسير: ما الذي جعل النحو العربيّ يبلغ من التعقيد وتشابك العُقد حدّاً ليس له حدّ؟ قلت: إنّ كشف المحجوب ضروريّ، فخلافاً لما قالوا نقول: ما كلّ ما يُعلم لا يقال. قال: إن فئة من قدمائنا أقامت حدوداً لحريّة الفكر، فقطعت الطريق على الفلسفة، فانحصرت في مذاهبها لدى اليونانيين، فكأن فلاسفة اليونان أرادوا سوءاً بنا وبمعتقدنا ورؤيتنا للكون والحياة، قبل مجيء الإسلام، وإلّا فما تلك الأطنان من الردود، بدلاً من إبداع فلسفة لنا؟ صارت الفلسفة هي الشيطان. لهذا قام «علم الكلام»، ولم يظهر مصطلح الفلسفة الإسلاميّة إلّا في العصر الحديث. علم الكلام الذي هو البديل الاصطلاحيّ من الفلسفة الإسلاميّة، جعلوه مشروطاً بعدم الخروج عن دائرة النصّ، وبما أن الفقهاء أدرى بفهمه، فإنهم هم الذين يرسمون حدود الحلال والحرام في ما سُمّي في عصرنا الفكر الدينيّ.
قلت: هات أصل المشكلة. قال: إن ما حدث في العقل، يشبه ما يفعله النمل، الذي حين تسدّ عليه باب المسعى إلى معاشه، يخرج من ناحية أخرى: «لا بدّ للمكبوت من فيضانِ». على طريقة التعذيب في جوانتانامو بإغراق رأس المسكين في الماء، أمسك النحاة هامة اللغة العربيّة، وأغرقوها بسيول العبارات والمصطلحات وأشكال التعبير والتفكير المألوفة في المنطق والفلسفة والمذاهب الفقهيّة، كالظاهر والباطن، وحتى الرياضيات كالمعادلات والبحث عن المجهول. غداً النحو عالم ميتافيزيقا وما ورائيات. صار على المتعلّم أن يكون فيلسوفاً خبيراً بالمنطق والتواءاته أوّلاً لكي يستطيع فتح فمه بنطق سليم. استعار النحو أدوات الفلسفة.
قلت: على واضعي المناهج اليوم أن يتخلّصوا من خرافة التفلسف النحويّ. لقد كان الجاهليّ فصيحاً ملمّاً بلغته، لا ابتدائية ولا جامعة، يقول بها أشعاراً تظل القرون تردّدها، والأدباء عاكفين على أسرار بلاغتها، والمعاجم لا تستشهد بغيرها برهاناً على سلامة اللغة، والنحاة يتفلسفون في تبرير إعرابها، والشعراء يقتدون بها إلى عصرنا الحديث. عليهم أن يشغّلوا أدمغتهم في هذا الاتجاه لتنعتق لغتنا من معتقلات النحاة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الكلثوميّة: آه من نحوك أدمى مُقلتي.. إنني في الدرس ما حصّلت شيّا.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى