بشهادة ميونيخ.. الغرب فشل لكنه لم يسقط
جميل مطر
للمرة الثانية في أسبوع واحد، أكتب متأثراً بالفشل الذي مُني به مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي. لم أكن الوحيد الذي حكم على المؤتمر بالفشل. فالانطباع العام الذي خلّفه المؤتمر بين المعلّقين والمراسلين كان الفشل. أظن، ويشاركني في الظن أعضاء في وفود حضرت المؤتمر بأن المشاركين ذهبوا إلى ميونيخ غير متوقّعين نتائج مبهرة أو حلولاً لمشكلات طال أمد انتظار انفراجها. كانت مداخلاتهم، من حيث المضمون واللهجة والتضارب، دليلي على أنهم لم يتوقّعوا خيراً أو جديداً من المؤتمر.
تنبع حماستي لمؤتمر الأمن الأوروبي من أمرين. أول الأمرين أن عدداً لا بأس به من الدورات السابقة ناقش قضايا مهمة، استفدنا منها، نحن المتابعين من الشرق الأوسط فائدة كبيرة. استفدنا لأننا تعاملنا معه كنافذة نطل منها على اجتهادات الدول الغربية في مجال الأمن. ولما كان الغرب هو القوة المهيمنة والمؤثرة في النظام الدولي الذي نشأ في نهايات الحرب العالمية الثانية، كان لا بد أن تكون له أصابع تلعب وتحرّك الأشياء والأحداث في بقية العالم، والشرق الأوسط بصفة خاصة. ثاني الأمرين أنني بدأت منذ فترة ألمس تدهور أدائه بتدرّج متسارع، مثله مثل أداء مؤتمرات أخرى اتخذت مع الوقت سمة أو أخرى من سمات المؤسسة الدولية.
لا نحتاج لخبير في السياسة الدولية والأمن العالمي ليقول لنا إن الأمن الدولي في خطر، وإن مشكلات عديدة وجديدة تهدد السلام العالمي، وأخرى عاشت معنا ردحاً معتبراً من الزمن وازدادت تعقيداً وخطورة على هذا السلام. المؤكد في نظرنا هو أن البشرية عادت تبدع في ابتكار حروبها وابتداع أدوات لهذه الحروب مختلفة عن معظم ما عهدناه من أدوات حرب في العصور السالفة. أكتب هذه السطور، ومن حولي تتدفق أخبار حرب حقيقية ضد الديمقراطية الليبرالية المطبّقة في الغرب، وتهديدات أيضاً جادّة من جانب أكثر من دولة غربية بالاستعداد لشن هجوم مضاد. حروب أخرى تستخدم طائرات متناهية الصغر من دون طيار وعصابات إرهابية، كدنا لكثرتها لا نصدّق أن دولة في عالمنا المعاصر لا تحوز عناصر إرهابية تدرّبها وتموّلها وتطلقها على دول أخرى، بينما هي مستمرّة في رفع شعار الحرب ضد الإرهاب. كدنا أيضاً لكثرتها نفسّر مداخلات لمسؤولين في مؤتمر ميونيخ على أنها اتهامات مبهمة لدول بعينها مشتركة في الحرب العالمية ضد الإرهاب، بمناصرة الإرهاب في مكان أو آخر. ثم ما هي الحكومة التي لا تشترك فعلياً في شن حرب إلكترونية ضد دول أخرى أو على الأقل استعدّت بخبرات أجنبية وخصصت أموالاً من ميزانياتها لتدريب كتائب على هذا النوع من الحرب؟ المثير في الأمر هو أن معظم الدول المتحاربة بهذا السلاح غير الفتّاك لا تزال تتعامل مع هذه المرحلة من حروب السيبرناطقية بنعومة لافتة. الرئيس ترامب ما زال غير مهتم، وبلده هي الأشد تعرضاً لهذه الحرب.
لم يقدّم المؤتمر- الذي عقد بمدينة ميونيخ قبل أيام قليلة- حلولاً لمشكلات وأزمات تهدد أمن الغرب. سمعنا تهديدات وتحليلات ولم نسمع حلولاً أو اقتراحات بتسويات. عجز الغرب لم يعد سراً. عجزه عن حماية أمنه أصبح حقيقة واقعة. من ناحية أولى هناك مثلاً عدم ثقة في قدرة الدولة الأعظم في الحلف الغربي، وفي نواياها في حال عدم التدخل الحاسم في حال تعرّضت دولة عضو في الحلف لتهديد أو خطر. فشلت أمريكا والغرب برمته في تسوية أزمة أفغانستان، أطول حروب الغرب على الإطلاق، والناتجة أصلاً عن تدخل غربي غير مدروس وبتأثير درجة قصوى من الانفعال. من ناحية ثالثة عادت رائحة الدمار الذي أحدثه الغزو الأمريكي للعراق، برضاء الغرب، تهز مشاعر شعوب وقادة الشرق الأوسط، كدليل دامغ على سوء نوايا النخبة السياسية الحاكمة في أمريكا، وانحياز تيار قوي فيها ضد المسلمين عامة والعرب بخاصة. من ناحية رابعة تعرّضت الحياة السياسية في تركيا ودول أوروبية خاصة بولندا والمجر لانتكاسات ديمقراطية، ولم تتحرك أمريكا أو حلف الأطلسي للدفاع عن الحرية والديمقراطية. ويوجد الآن قلق كبير في الغرب من أنه ربما يكون قد فقد الشرق الأوسط نهائياً أو على وشك أن يفقده.
كذلك اهتزت ثقة العالم بالقيم الغربية عموماً والتجربة الديمقراطية تحديداً. صورة الغرب في أذهان غير الغربيين تأثرت بشدة خلال السنوات الأخيرة، وخصوصاً منذ تولى الرئيس ترامب مسؤولية الحكم في الدولة الغربية الأعظم. عادت تهيمن صورة المجتمع الغربي الأبيض، وكذلك صورة الفجوة الواسعة بين الأغنياء والفقراء وبين الرجال والنساء وبين جيل وآخر من أجيال الشباب. رأيت بنفسي إلى أي حد تهيمن الآن صورة الغرب متراجعاً أمام زحف روسيا والصين. رأيت أيضاً صورة الغرب مسؤولاً عن وحشية الدمار الذي حاق بسوريا وليبيا أساساً واليمن أيضاً، وعن الفشل المريع في تسوية الأزمة السورية والفشل في طمأنة كل من أستراليا والفلبين وماليزيا وإندونيسيا وفيتنام إلى أمنها ومستقبلها.
الغرب فشل، يفقد أرضاً بعد أرض وشعباً بعد شعب، وتتعرض منظومة قيمه ومبادئه لهجمة هي الأعنف منذ صراعه مع الشيوعية. تراجع الغرب نفوذاً ومكانة ومبادئ، لكنه لم يسقط. مؤتمراته ستنعقد في مواعيدها، وخبراؤه لن يدعوا فرصة اجتماع تفلت دون المشاركة بالتحليل والتنبؤ. يبقى أن يستعيد الغرب روحه أو يفيق من غفوة طالت ويختار دوراً يؤديه في صنع نظام عالمي جديد وصياغة منظومة قيم تتناسب وسلوكات عصر مختلف.