تثبيت الديمقراطية!
د. ناجي صادق شراب
الكاتب الأمريكي شميتر يصف الحالة الديمقراطية الشاملة، بأن انهيار الاستبداد أو أنظمة الحكم الاستبدادية يقع بين مرحلة التحول الديمقراطي وتثبيت الديمقراطية. وهذا يعني أن لدينا لتفسير الحالة السياسية العربية أكثر من مرحلة، مرحلة الاستبداد والحكم التسلطي، ومرحلة التحول الديمقراطي، وهي مرحلة قد تطول أو تقصر، وقد ترتد للوراء، أو تكتمل بتثبيت النظام الديمقراطي الذي يتوالد ذاتياً، ويملك مقومات البقاء والاستمرارية. خطورة مرحلة التحول أنها تتسلح بالديمقراطية، والتخلص من الاستبداد السابق الذي يختزل النظام كله في شخص الحاكم؛ لكن التحديات الداخلية والخارجية، التي تواجه عملية التحول تقود لشكل من الحكم هو خليط بين الإجراءات الديمقراطية والاستبدداية. ولعل أكبر التحديات، التي تواجه هذه المرحلة، وتحول دون استكمال وتثبيت الديمقراطية هو ظهور «فواعل اللاديموقراطيين»؛ وهي مجموعة من القوى القديمة، التي تحاول أن تُطِلَ برأسها من جديد؛ عبر المشاركة في عمليات التحول كالانتخابات، أو تشكيل قوى وأحزاب بمسميات جديدة؛ لكنها تشد عملية التحول للوراء، إضافة إلى الفواعل من القوى الإسلامية، التي هدفها الأساسي هو السيطرة على الحكم؛ عبر مقولة الانتخابات لمرة واحدة، وقد تكون أكثر القوى استفادت من عملية التحول؛ فهي من ناحية تستفيد من فراغ الدولة وضعف مؤسسات المجتمع المدني، وأحزاب والقوى السياسية التي أصابها الوهن؛ بسبب استبدادية النظام السابق، ومن ناحية أخرى هي المستفيد الأول من عمليات التحول السياسي، التي شهدتها عدة دول عربية؛ بإظهار قدر من المرونة والتكيّف السياسي في مرحلة التحول؛ ونظراً لحاجتها للشرعية السياسية فهي تقف وراء الانتخابات، والحرص على كسبها بكل الوسائل، وبمجرد وصولها للحكم تعمل على التنصل والتراجع عن كل الوعود السياسية.
وإلى جانب هذه «الفواعل اللاديموقراطية»، يساهم غياب الثقافة المدنية، وغلبة النزعة الشخصانية على الحياة السياسية، وغياب المؤسساتية وضعفها؛ بسبب الفساد، في تعميق وتجذر مرحلة التحول الديمقراطي، ولعل السمة الوحيدة، التي تتسم بها هذه المرحلة هي الانتخابات، التي يحرص الجميع على تنظيمها؛ لاكتساب الشرعية السياسية، التي تعد الغطاء والتبرير السياسي لمن يحكم. والسؤال المتجدد دائماً هو لماذا لم ننجح في تثبيت الديمقراطية؟، والإجابة واضحة؛ وهي أن مرحلة تثبيت الديمقراطية تحتاج إلى نجاح مرحلة التحول الديمقراطي، إلا أن عوامل كثيرة تقف وراء هذه الإجابة: في مقدمتها أنه عندما اندلع الحراك العربي لم يكن الهدف واضحاً لدى قيادات هذا الحراك؛ بل التداخل والتناقض كان واضحاً، والهدف المشترك فقط هو إسقاط نظام الحكم القائم، دون رؤية واضحة لماهية نظام الحكم الذي يليه، هل سيكون بمرجعية مدنية، أم بمرجعية دينية. وبسبب غياب الثقافة المدنية والتوافق على إدارة الخلافات؛ سادت حالة من الفوضى والعنف والإضرابات، التي شلت الحياة المدنية بالكامل، ومن شأن هذه المظاهر أن تدفع بعدم الثقة بما يجري.
وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل الدور الخارجي، الذي وإن كان يؤيد سقوط أنظمة الحكم السابقة، إلا أن هذا التدخل كانت تشوبه الكثير من الأهداف، التي لا تسعى لتثبيت الديمقراطية، بتبنيها مواقف مؤيدة وواضحة للجماعات الإسلامية من باب أن حكمها جاء عبر الانتخابات، وأنه تعبير عن الحكم المدني حتى ولو في صورته الدينية، هذا العامل الخارجي ساهم بشكل كبير في عدم انتظام عملية التحول الديمقراطي. وبسبب انتشار العنف والإرهاب والفوضى، التي تضع أمن الدول نفسها في حالة من التهديد المباشر يبرز دور المؤسسة العسكرية القادرة في هذه المرحلة على التصدي لحالة العنف والفوضى، وبسبب حالة الخوف، التي تنتاب المواطن العادي تجد المؤسسة العسكرية فرصة من جديد للحكم بلباس مدني.
وتعود الحالة السياسية من جديد للجدل والنقاش حول دور العسكر في تثبيت الديمقراطية، وعلاقته بالمؤسسات المدنية للحكم، وهذه قضية جدلية قديمة. إن عملية التحول الديمقراطي وصولاً لتثبيت الحكم الديمقراطي تحتاج إلى مقومات حكم مدني ما زالت غائبة عن العديد من الدول العربية، وهذا يعني أن مرحلة التحول الديمقراطي ستطول في هذه الدول، وسيغلب عليها الكثير من القوانين والقرارات، التي تتعارض والحكم الديمقراطي، وخصوصاً أن مرحلة التحول صاحبتها ولا زالت حالة من العنف تُعرض السلم الاجتماعي للخطر. وسيتوقف مستقبل الدول العربية على هزيمة القوى المجهضة للديموقراطية، وعلى مدى إدراك أنظمة الحكم الجديدة أن عامل التحول وثقافة التغيير قد بدأت، وأن المواطن الجديد لديه القدرة على التغيير والتضحية. وبقدر هذا الإدراك يستطيع أن يقترب من مرحلة تثبيت الديمقراطية.
drnagishurrab@gmail.com