روسيا تجدد سباق التسلح الاستراتيجي
د. خليل حسين
أطلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في خطابه أمام الجمعية الفيدرالية الروسية، خطاباً مدوّياً حمل في طياته رؤيته للعقيدة الروسية خلال العقدين القادمين.
وبصرف النظر عن اعتبار الخطاب جزءاً من حملته الرئاسية المقبلة، ثمة وقائع ملفتة تعيد أجواء السياسات الدولية إلى سباق تسلح استراتيجي نوعي، ويؤسس لمنظومة من العلاقات الروسية الأمريكية التي تخرج عن إطار تنافسي إلى إطار صراعي مفتوح، لكن السؤال الذي يُطرح، هو مدى قدرة موسكو على تنفيذ ذلك، ومدى قدرتها على احتواء ردود الفعل الأمريكية اللاحقة، إضافة إلى قدرة الطرفين على إدارة الأزمات الإقليمية والدولية الراهنة، والتي يمكن أن تنشأ لاحقاً جراء ذلك.
طغى على الخطاب أولاً الطابع الشوفيني للأمة الروسية، الذي أبرزه بالقدرات الهائلة الممتلكة وبخاصة المنجز منها، وذلك في مجالات التطوير التكنولوجي العسكري، والطموحات الاقتصادية، ومجالات التنمية الاجتماعية، وصولاً إلى الطموحات الخارجية التي لم يخفها بوتين في خطاباته، إبان مراحل حُكمه السابقة.
وفي الواقع ثمة صولات وجولات من سباق التسلح بين موسكو وواشنطن. وبصرف النظر عن المقاربة الأيديولوجية للحقبة السوفييتية آنذاك في هذا المجال، إلا أن كثيراً من المحددات الناظمة لعمليات التسلح ما زالت قائمة حالياً. فضمور الدور الروسي العالمي إبان العقد الأخير من القرن الماضي، سرعان ما تبدد وأطلق من جديد، لكن واقع العلاقات الأمريكية الروسية خرج عن التنافس المألوف، مع اشتعال أزمات إقليمية ذات دوافع وخلفيات دولية، كالأزمة السورية مثلاً، التي باتت مرتعاً لتجار الأسلحة بين الطرفين، وهو أمر لم تخفه القيادة الروسية، حيث أعلنت أن ثمة مئتا نوع من الأسلحة الجديدة تمت تجربتها مؤخراً، إضافة إلى نشر منظومات جوية من طراز «سوخوي 57»، وهي من الجيل الخامس، وتعتبر ذات طبيعة استراتيجية عالية الدقة، وهذا قابله نشر منظومات أمريكية في غير مكان في الشرق الأوسط، ومن بينها «أف 35» ذات الطبيعة المماثلة.
ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل تعداه إلى الإطار النووي المقترن مع جيل جديد من الصواريخ الباليستية المجنّحة، القادرة على إصابة أهداف محققة أينما كانت في الكرة الأرضية، وهذا ما حرص على تبيانه الرئيس الروسي في خطابه، وهو ما يعتبر رداً مباشراً على العقيدة النووية الأمريكية التي أطلقها الرئيس دونالد ترامب في يناير/كانون الثاني الماضي، والذي اعتبر تحدياً للجانب الروسي، خاصة بعدما انسحبت واشنطن من معاهدة الحد من التسلح النووي من طرف واحد، وهي المعاهدة التي استهلكت وقتاً وجهداً كبيرين للوصول إليها في عام 1972، وجُددت عام 1978، عبر اتفاقيتي «سالت 1» و«سالت 2».
لقد تم خرق وتجاوز هاتين الاتفاقيتين في منتصف ثمانينات القرن الماضي، عندما أطلقت واشنطن مشروع الدرع الصاروخي بمواجهة الاتحاد السوفييتي السابق، واستُتبع بعدة سياسات وإجراءات تصعيدية تركت بصماتها واضحة في العلاقات البينية الروسية الأمريكية.
وقد انتهج الرئيس السوفييتي الأخير ميخائيل جورباتشوف، سياسات مهادنة مع واشنطن في تعبير واضح لعدم قدرة موسكو على استكمال برامجها التسليحية آنذاك، ولا يسعنا إلا استذكار قول جورباتشوف الشهير آنذاك: «نريد إطعام شعبنا الزبدة بدل الإنفاق على السلاح»، والمفارقة إن بوتين اليوم، يغمز من قناة الرفاهية والطموح الروسي من باب تأكيد الحضور الدولي، بصرف النظر عن الإمكانات المتاحة لذلك أم لا.
ثمة دراسات ووثائق نشرت بعد حقبة الانهيار السوفييتي، مضمونها أن سباق التسلح وبالأخص برنامج الدرع الصاروخي الأمريكي، كان سبباً رئيسياً لانهيار الوضع الاقتصادي السوفييتي آنذاك، اليوم ربما تمتلك موسكو شيئاً من الإمكانات الوازنة لتحقيق طموحاتها، لكن هل استمرارية المواجهة والتنافس متوفرة أيضاً؟
لا شك أن موسكو تمكنت من الانتقال النوعي في المجال الدولي في العقد الحالي، لكن السياسات الغربية المفروضة عليها مرهقة في الحد الأدنى، وذلك جراء العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، ما يعني بشكل أو بآخر إمكانية التأثير في التطوير وإمكانات المواجهة المستمرة، وهو أمر مشابه إلى حد بعيد مع ظروف ثمانينات القرن الماضي.
فهل سيعيد الرئيس بوتين التجربة السوفييتية في فصولها الأخيرة؟
إن سباق التسلح يستلزم إمكانات اقتصادية ضخمة، ونظم تسويق وإدارة هائلة للأزمات المتفرعة والمتصلة، سيما أن الأجواء الدولية مشحونة بشكل مكثف في غير منطقة من العالم؛ الأمر الذي يتطلب دراية وواقعية شديدتين لإدارة الأزمات الدولية، ومنها التي يمكن أن تنشأ عبر هذا «التحشيد» لسباق التسلح الجديد.