مقالات عامة

ما بعد «بيريسترويكا» حسن النية!

د. عمر عبدالعزيز

ما يجري على خط العمليات الميدانية الدموية بالترافق مع الحُمَّى السياسية الإقليمية والدولية، يؤشر إلى حالة من فقدان السيطرة على الأوضاع في تلك المناطق، كما يؤشر إلى شكل من أشكال التسليم القدري بتفاقم بؤر التوتر في تلك المناطق.
نحن هنا لا نتحدث عما يجري في المنطقة العربية فقط، بل في مختلف أرجاء العالم من حيث المشاكل المكبوتة، والمخاضات المؤجلة التي لم تصل بعد إلى حد الانفجار، والاختلال الهيكلي في ميزان القوى والمصالح والاعتبارات الأخلاقية، التي طالما تغنى بها سدنة السياسة الدولية، وخاصة أثناء الحرب الباردة.
اليوم يصرح الجميع بأنهم في مرمى النيران وإن تباعدوا عنها، أو احتموا بسياجات واهية من خرسانات الحدود والأسلاك الكهربائية المترافقة معها، فالجدار العنصري الذي بنته «إسرائيل» ضد الفلسطينيين لم يعد حكراً عليها، بل يعيد إنتاج عنصريته على خط الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك، في إشارة موجهة لعموم أمريكا الجنوبية، التي قدمت للبشرية نموذجاً خلاسياً عابراً للتعصبات الدينية والعرقية المقيتة، وتفكر بعض الدول جدياً في تعميم هذا النموذج العنصري اللاإنساني، لحماية حدودها البرية، متناسية أن الكرة الأرضية لا يمكنها أن تحاصر بحدود البراري، وأن متوازيات البر في الماء والهواء حاملين كبيرين لعناصر التفاعل الإنساني المجتمعي الواسع.
في البحار المحدودة كالبحر الأحمر والأبيض المتوسط يجري تهريب مئات آلاف الشباب القادمين من جنوب العالم البائس المُسْتلب والمنهوب، وعلى خط التماس بين هؤلاء وقلاع الصناعة والمال الشمالية، يتم التفنن في استلاب آدمية الإنسان، من خلال سلسلة البورصات الرأسمالية المتوحشة للمتاجرة بالبشر، كما الحجر والمدر.
أنصار الليبرالية التاريخية في ديمقراطيات الاستفتاءات اليمينية، يتحدثون عن تحرير التجارة والاستثمار فحسب، ولكنهم لا يريدون تحرير عناصر الميزات النسبية في بلدان الجنوب الفقيرة، بفعل الفاعل الليبرالي نفسه، الذي شرْعن ويُشرعن لأنظمة الفساد، ووكلاء الأعمال المستخدمين من قبل الشركات العابرة للقارات.
وبالترافق مع ذلك يحرص مديرو الحروب عن بُعد، على تعميم الفوضى واللادولة، التي ما زالت شواهدها شاخصة في أفغانستان والعراق وسوريا، وقد يلتحق آخرون في القريب العاجل بهذه الدائرة الجهنمية في تعميم الموت والدمار.
هذا هو المشهد «النبوئي» الذي يعدون به، ولهذا السبب تتعقَّد المشاكل في كامل بؤر التوتر القائمة، فيما تنذر بأوخم العواقب في بلدان الاستقرار الهش، حتى إن المراقبين المتابعين لما يجري في عالم اليوم، لا يستبعدون المزيد من الانهيارات العالمية العابرة للحواجز الوهمية براً وبحراً وجواً.
قبلُ، أنتجت هوليوود فيلماً سينمائياً بعنوان: (اليوم ما بعد الآخر) وكان موضوع الفيلم منصباً على الكوارث المناخية المحتملة، جراء الاحتباس الحراري، وما يستتبعه من ذوبان الجليد القطبي، والفيضانات البحرية، وهلاك أنماط واسعة من البيئة الحيوانية والنباتية، وحتى الفيضانات المدمرة، والدخول العاجل نحو حقبة جيولوجية جليدية تجفف منابع الحياة.
ما افترضه منتجو الفيلم لم يأتِ من فراغ، بل قال به العلماء وكرروه بإلحاح على مدى عقود من الزمن، لكن آلة العناد والتكبّر العالمية رفضت وترفض بثبات، إعادة النظر في النمط الهلاكي الذي يقرب البشرية من لحظة الانهيار الشامل.
أمام هذه السيناريوهات المرعبة، تبدو الحروب القائمة والاحتقانات المنتشرة مجرد تمهيد لما هو أفدح، وإذا أضفنا إلى كل ذلك ما يجري من تصادمات معلنة ومخفية، وكيف أن الجميع يحاربون الجميع من يحث يدرون أو لا يدرون، سنصل إلى قناعة راسخة بأنه لا مفر من أن يرفع عقلاء الكرة الأرضية أصواتهم عالية مدوية، وأن يتم التصدي لصناع الموت الجماعي.
مفردات المشهد التراجيدي واضحة بيِّنة على الأرض، وخيارات الخروج من النفق المظلم واضحة أيضاً، والطريق لذلك الخروج يعني الإقرار المسبق بأنه لا منتصر ولا مهزوم في معركة الفناء الشامل، وأن طوباوية فكرة البريسترويكا الجورباتشوفية تعيد اليوم إنتاج أبعادها خارج لعبة حسن النية والسذاجة، التي وسمت دعاتها السوفييت.
إصلاح اليوم ينطلق من حقيقة بسيطة، مضمونها أن الكل يمتلك أسباب التدمير والقوة، وإن بدا ضعيفاً واهناً، وأن من استمرأوا إدارة حروب السيطرة والتنسيق العملياتي المقرون بالقوة الغاشمة، لم يعد بوسعهم السيطرة على الحروب الماثلة، وإن بدت محدودة جغرافياً، مقرونة بأقاليم معينة، ويمكننا هنا الاستشهاد بأمثلة أفغانستان، حيث الموت المتجول حتى اللحظة، والعراق حيث التمزّق المتمدد في اللحمة الوطنية، وأوكرانيا حيث المواجهة السافرة التي تعيد حروب أوروبا العرقية الدينية التاريخية، وسوريا حيث الشتات واقتسام الموت بين فرقاء الداخل والإقليم والعالم.
قال المناطقة قديماً: إن النتائج بنت الأسباب، وقال العارفون بأسرار الطبيعة: علامة المطر في السحاب.. تلك الأقوال تقدم لنا المعنى الكامن وراء الشواهد الماثلة.

omaraziz105@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى