تناقضات أمريكية حول «مصر شريك استراتيجي»!
عاطف الغمري
ما حدث في الكونجرس الأمريكي منذ فترة قريبة في جلسة حول مصر، يعيد إلى ذاكرتي جلسة مشابهة لنفس لجنة العلاقات الخارجية بالكونجرس، حرصت يومها على حضورها كمراسل أجنبي، وكان ذلك منذ حوالي عشر سنوات. ولاحظت أن من اختارتهم اللجنة للحديث في الشأن المصري، ثلاثة هم تحديداً مدير «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، الموالي تماماً ل «إسرائيل»، والثاني «رئيس منظمة مناهضة التشهير الأمريكية الصهيونية»، وثالثهم مصري ممن يكتبون مقالات في الصحف الأمريكية، تتسم بانتقاد الأوضاع في مصر، وإن كان الأخير قد فاجأ من دعوه للمشاركة في هذه الجلسة، بعدم انتقاده لمصر عكس ما كانوا يتوقعون.
كانت شهادة كل من الاثنين الآخرين سلبية تماما، خاصة محاولة الإدلاء بآراء تتعلق بالأقباط في مصر، ووصفهم لهم بالأقلية، وهي آراء تتردد من حين لآخر في ندوات تقيمها منظمات تتولى تمويل إقامة هذه الندوات؛ وهي منظمات معروفة بعلاقاتها بالقوى اليهودية الأمريكية مثل: «منظمة فريدوم هاوس».
وما حدث في المرة الأخيرة، لا يمكن لما كان يحدث في مرات سابقة، من معزوفة واحدة تردد نفس النغمة، وتشارك فيها بعض الصحف المعروفة بالتزامها بنقل تفكير الإدارة الأمريكية، ف «الواشنطن بوست»، و«نيويورك تايمز»، ومنظمات مدنية مثل «هيومان رايتس ووتش»، التي يربطها خط اتصال بوزارة الخارجية في واشنطن، التي تحصل على تمويل من جهات عرفت بعدائها لمصر؛ لكي تثير من وقت لآخر موضوع حقوق الإنسان، وهو ما نشر تفصيلاً في الولايات المتحدة. وكل هذه الجهات تعزف نغمة واحدة يغلب عليها التوافق والتنسيق.
فمثلاً عبّرت صحيفة «نيويورك تايمز» عن رأيها في تقرير عن علاقة مصر بالولايات المتحدة، بعنوان «مصر حليف سيئ»، وأن علاقتهما تفتقد للطابع الاستراتيجي، وفي تعارض مع مساعي أمريكية سابقة بدأت في عهد الرئيس كلينتون عام 1998، في إطار ما عرف بالحوار الاستراتيجي، الذي تم تدشينه كمنظومة مؤسسية، تنعقد بشكل منتظم، مع الاعتراف بوجود مساحة للاختلاف تتيح لكل منهما التصرف بما يتفق مع رؤيته وظروفه، في قضايا دولية وإقليمية.
ولما كان ذلك يعد مسألة طبيعية من ناحية؛ كون كل واحدة منهما دولة ذات سيادة، وأن الحكم فيها يعبر عن إرادة مواطنيها، وانتماءاتهم، وواقعهم، فإن التشكيك في قضية مساحة الاختلاف، كما تثار في الولايات المتحدة، يتعارض مع قواعد عمل العلاقات الدولية، والقانون الدولي، ومواثيق الأمم المتحدة.
إن هذه النغمة النشاز التي ترددت مؤخراً من جانب بعض الجهات في الولايات المتحدة، تنطلق من زاوية التعالي والغطرسة، والمغالطة، وتناقض قواعد سيادة الدول، وإرادة شعوبها، وهي انعكاس لمواقف تتعلق بالسيادة الخارجية للولايات المتحدة في منطقتنا العربية، التي يزعجها أن تتبنى مصر مواقف مستقلة تجاه أزمات المنطقة، التي يحكم موقف مصر منها مبدأ المحافظة على الدولة الوطنية، وعدم تعريضها للتفتيت ثم الانهيار، وهو ما ينطبق على حل الأزمة السورية، أو المحافظة على استقرار وسلامة الدولة في ليبيا، ثم ما أزعجهم مؤخراً من تكاتف مصر مع مواقف الدول العربية الأخرى، من إعلان الرئيس ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة ل «إسرائيل»، وتقديمها مشروع قرار إلى مجلس الأمن برفض قرار ترامب، ثم المشاركة مع مختلف الدول التي صوتت في الجمعية العامة للأمم المتحدة على رفض قرار ترامب والمدعوم من 128 دولة.
وكل ذلك كان تمسكاً بما سبق أن نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، وما التزمت به دول العالم، ومن بينها سابقاً الولايات المتحدة، بعدم انفراد أي طرف بتقرير مستقبل القدس، الذي لا يتحدد إلا في مفاوضات الوضع النهائي بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين.
لقد جاء الموقف الأمريكي متناقضاً مع نفسه، فإن سياسة ترامب اتخذت موقفاً يعتبر مصر حليفاً استراتيجياً في الحرب على الإرهاب، بينما يأتي قراره بالاعتراف بالقدس عاصمة
لـ «إسرائيل»، مقدماً مبرراً لأجنحة معينة لممارسة العنف، الذي قد تتخذه منظمات بعينها مسوغاً للإرهاب. ثم أين هو التوازن بين إعلانه أن مصر حليف استراتيجي، وتلك النغمة التي أطلقت في الكونجرس، والصحافة، التي تنفي مقولة ترامب؟!.
وما زال مسلسل التناقضات مستمراً حينما جاء نائب الرئيس مايك بنس إلى القاهرة، ليقول إن الولايات المتحدة تنظر إلى مصر باعتبارها شريكاً استراتيجياً مهماً، كما تقول عليها في الكثير من القضايا والأزمات التي تشهدها المنطقة، وهو قول تدوي وراءه في نفس الوقت، طبول عزف على المعاني المخالفة لذلك على طول الخط.