مالفا نيرودا
يوسف أبو لوز
يذكر الكاتب الصحفي شوقي الريّس أنه خلال زيارته الأولى إلى تشيلي أواسط ثمانينات القرن العشرين ذهب إلى المطعم الذي كان يتردد عليه الشاعر بابلو نيرودا، وطلب من النادل الطبق الذي كان يفضله صاحب قصائد الحب الناعمة في «ماتيلدا»، وقال الريّس إن النادل «..غاب فترة ثم عاد بصحن اتسع لشتى أصناف اللحوم والحبوب والبيض والخضراوات التي سخى عليها المرق وكأنه ينادي: يا جياع العالم اتحدوا..» في إشارة إلى العبارة الاشتراكية التي كانت ملأت العالم في السبعينات وهي: «يا عمال العالم اتحدوا..».
كانت دهشة الريّس كبيرة وهو يرى هذا الجبل من الطعام الذي كان يقدم إلى شاعر ملأ الدنيا بقصائد رهيفة «نحيلة» وكان نيرودا ضخماً طويل القامة. عاشق كبير للحرية والحياة، وتجاوز شعره حدود بلاده ليحيط بالعالم كالسوار.. «..لا أحبك كما لو أنك وردة من ملح..//.. أو حجر ياقوت..//.. أو سهم من قرنفلات تشيع النار..//.. أحبك مثلما تُحَبُّ بعض الأمور الغامضة..//.. سرّاً بين الظل والرّوح..//.. أحبك مثل النبتة التي لا تزهر..//.. وتخبئ في داخلها ضوء تلك الزهور..//..».
قائل هذا الشعر المصنوع من القرنفل والياقوت هو نيرودا، وهو أيضاً من تنكّر لطفلته «مالفا» التي توفيت في الثامنة من عمرها.
حكاية نيرودا وكراهيته لابنته ليست جديدة، فقد كشفت عنها الصحافة قبل سنوات، غير أن شوقي الريّس يعيد الضوء من جديد على هذه الحكاية «اللاإنسانية» باستعراضه كتاباً بعنوان «مالفا» وضعته الشاعرة الهولندية هاغار بيترز «.. عن الابنة الوحيدة» لنيرودا ويقول عنها.. «.. ابنتي أو مَنْ هكذا أسميها.. كائن في منتهى السخافة، أشبه بنقطة وفاصلة، مصاصة دماء ضئيلة الوزن..».
أمر مرعب أن يكتب شاعر في مثل روح وإنسانية نيرودا عن ابنته بهذه اللغة التي ترشح اشمئزازاً، وكأنها ليست من دمه هو الشاعر الذي حول الحب إلى كوكب، والكلام العادي إلى خبز وسلال زهر وأقواس قزح.
مذهل مثل هذا التناقض ليس عند نيرودا وحده، بل ثمة شعراء كثر في العالم تنكروا إلى ما يسمونه «المؤسسة الزوجية»، ويرون هذه «المؤسسة»، بوصفها سلطة اجتماعية لا يجب الخضوع لها، بل حتى محاربتها، وبالطبع، يتبع ذلك نوع من التخلي عن الأبناء، أي باختصار، يتحول الشاعر في هذه الحالة اللاأخلاقية إلى مجرم.
هذه النظرة اللاإنسانية إلى العائلة والأبناء وما يحيط بها من عدمية ولا مبالاة كانت نتاج بعض أدبيات وشعارات اليسار العربي المستوردة من الإيديولوجية الحمراء زمن ما كان يسمى الاتحاد السوفييتي، وعندما انهار ذلك الكيان العقائدي المغلق انهار معه الكثير من الشعراء، أو أنهم أصيبوا بالخيبة المريرة.
هناك مناطق في أرواح بعض الشعراء الكبار لا نعرفها أبداً، وهي مناطق معتمة لو أضيء عليها انكشف الشاعر وتفككت تماماً أعمدة «الكاريزما» الأدبية التي يتحصن بها.. ولكن.. هل يشفع الشعر لنيرودا الذي كان يحب الطعام أكثر مما يجب «مالفا» المسكينة المريضة؟ لا ندري.
yabolouz@gmail.com