خميسيّات اللهجات: إشارات وتنبيهات
عبد اللطيف الزبيدي
لماذا آثر القلم مفردة لهجة على كلمتي عامية ودارجة؟ اللهجة تدل على النبرة والتلوين الصوتيّ في النطق. في لسان العرب: «اللهجة جرس الكلام، وهي لغته (المتكلم) التي جُبل عليها فاعتادها ونشأ عليها». العامية تصرفنا إلى طبقية لغوية، تصبح نقيض لغة الخواص، وهذا خوض آخر. أمّا الدارجة، بمعنى ما درج الناس عليه، فإن اللهجة أشمل دلالة وأدقّ توصيفاً، لأن أغلب الكلام في البلدان العربية مشترك، ولكن طرائق التلفظ مختلفة.
غريب وغير مستغرب كساح البحث العلميّ في العالم العربي، بالرغم من صعوبة تحديد الحقبة التي ظهرت فيها آفة نبذ حرية الفكر. ها نحن أمام ألوان من التعصب لا مبرر لها.عند العكوف على الكثير من مراجع اللهجات العربية، كتباً ودراسات ومقالات، عجب القلم لكثرة العراقيل الاحتكارية الانحصارية التي تعترض طريق النزاهة العلمية. إنها العقبات نفسها التي أدّت إلى امتناع ظهور المعجم التاريخيّ للغة العربية، إلى أن عقد العزم على إطلاقه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الشارقة. مخاوف التقاعس قرناً، بل يزيد، مردّها إلى خشية الكشف عن تشابك جذور العربية مع اللغات السامية والأفروآسيوية وغيرها، بينما الأمر القرآنيّ أعظم حداثة وانفتاحاً بلا حدود، فهو يأمر، بفعل الأمر، بالبحث عن بدء الخلق كله لا الخليقة فحسب: «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق» (كيف بدأ الله الخلق، بالفيزياء لا باللغات واللهجات).
في انعدام رحابة الذهن هذا، فكريّاً وبحثياً ولغوياً، ظهر الكثير من الكتّاب الذين فرضوا على لغات غير عربية أن تكون عربية بالإكراه. في مقدمتهم الراحل الليبي د.علي فهمي خشيم، الذي أراد للمصرية القديمة والأمازيغيّة وحتى اللاتينيّة، أن تكون جذورها عربية، على طريقة العبارة السورية الطريفة: «حكى؟ ما حكى؟..نعم سيدي، اعترف»! د.خشيم ظريف وممتع، فهو يخرجك من البحث العلمي إلى الكوميديا في الدراسات، لكن إرضاء صاحب «الكتاب الأخضر» شيء والمنهجية الأكاديمية شيء آخر.
في اللهجات، نرى المأساة نفسها. صراعات مذهلة بين فريقين متفارقين، أحدهما يريد ردّ مكوّنات اللهجة إلى العربية قسراً، والآخر إرجاعَها إلى أصل أو أصول غير عربية مهما يكن الثمن.لهذا احتاج القلم إلى التريّث في اقتحام اللهجة (اللهجات) السودانية. في التنفس تحت الماء أيضاً متعة. المراجع قليلة والإثنيّات كثيرة، وإن تميّزت فيها اللغتان النوبيّة والعربية، ولكن معارك المتعصبين حامية الوطيس. إلى الخميس بإذنه.
لزوم ما يلزم: النتيجة الأسفية: في كل ما سبق، كان الأوروبيون الفائزين بقصب السبق والأسبقية إلى دراسة تراثنا وميراثنا.
abuzzabaed@gmail.com