سقوف وقيعان
خيري منصور
حين كتب عالم النفس ويلهلم رايش رسائله إلى إنسان صغير، حاول رصد ما انتهى إليه البشر في العصر الحديث رغم كل منجزاته العلمية، ووجد أن هذا الإنسان يعاني استلاباً في الوعي واغتراباًَ حتى في عقر داره؛ لكنه لم يقل لنا من هو الإنسان الكبير؟ وهل هو الذي طواه التاريخ في عصور مضت؟ لكن ما يجمع عليه علماء نفس واجتماع ومشتغلون في هندسة العمران هو أن الإنسان فيما مضى كان يحس بأن قامته عالية، لهذا كانت سقوف البيوت ضعف ما هي عليه الآن، وكانت مساحات الحرية سواء في الطبيعة أو الحياة الاجتماعية تتيح له أن يتنفس ويتثاءب بحرية دون أن ترتطم ذراعاه بالجدار!
كما أن الإنسان كان سيداً لما يخترع ليس عبداً له، بعكس ما حدث فيما بعد عندما أصبح أسير اختراعاته، ما دفع شاعراً فرنسياً إلى القول إن غرفته التي امتلأت بالأدوات الكهربائية لم يبق فيها مكان يجلس فيه، أما ريفردي فقد قرر في لحظة تمرد وعصيان على ما انتهى إليه الإنسان الحديث من ارتهان لما صنعت يداه أن يخلي منزله من كل شيء ولم يعد يحتمل رؤية اللوحات على الجدران، وقرر أيضاً أن يبقيها عارية!
ثم وضع مقعداً في فراغ الغرفة وجلس عليه وأحس بأنه يجسد مقولة الفيلسوف ديكارت الشهيرة وهي «أنا أفكر إذن أنا موجود».
وما يقوله العلماء عن اختناق الإنسان الحديث ليس شعراً أو مجرد تحليق في الخيال، فهو بحاجة إلى الأوكسجين والمجال الحيوي للحركة كي يحتفظ بتوازنه. فالتوتر أصبح سمة عصرنا، ولم يعد الناس ينامون باستغراق، لهذا أصبح هناك في عالم الطب ما يُسمى بطب النوم.
إنها لمفارقة حقاً، فالإنسان القديم كان كما يقول شاعرنا امرؤ القيس يشكو من طول الليل الذي يرخي سدوله كموج البحر؛ لكنه الآن يشكو من قصر الليل، ويود لو أن اليوم ألف ساعة!