حضارة في طور الاحتضار
خيري منصور
يروى عن الفيلسوف الألماني أزوالد اشبنجلر أنه كان في نهاية الحرب العالمية الأولى يصغي من نافذة غرفته إلى أزيز الطائرات وصوت القنابل، ويرى بالعين المجردة كيف يحجب الغبار والدخان الأفق، لكن كل ذلك لم يحل دون استمراره في تأليف كتابه «تدهور الحضارة الغربية» في ثلاثة مجلدات.
فهل كان صوت تلك الانفجارات والانهيارات هو صوت حضارة تحتضر؟ أم أن الرجل شأن أبناء جيله ممن عاشوا في النصف الأول من القرن العشرين شعر بأن الحرب تكون في إحدى دلالاتها تعبيراً عن فراغ روحي وعجز بشري عن تحقيق التعايش واستخدام الحوار بدلاً من البارود؟
إن عناوين من طراز تدهور الغرب تكررت كثيراً في أوروبا، وحاول الكاتب البريطاني كولون ويلسون أن يحشد في كتابه سقوط الحضارة عدداً من المؤرخين والفلاسفة والمبدعين ممن أطلق عليهم صفة اللامنتمين، كي يتوصل إلى ما عبر عنه مجازياً بقوله ظهور البثور المتقيحة على جلد الحضارة عندما تفقد حيويتها ومناعتها الأخلاقية. لهذا فإن ثنائية نهوض وسقوط الحضارات لا تخضع لقراءات سطحية تقتصر على المقارنات المادية فقط، فالعرب كانوا عندما كتب اشبنجلر عن تدهور الغرب وسقوطه يراوحون بين الاحتلال والانتداب والوصاية بمختلف أشكالها، لكنه تحدث عن الحضارة العربية بإعجاب، ومن خلال تحليله للعمران في الحضارة العربية وجدلية التقدم والتراجع انتهى إلى أن هذه الحضارة قادرة على الانبعاث والاستمرار والصيرورة.
وحدد الفارق الجوهري بين الحضارة والمدنية، فالحضارة شيء آخر لا تقع عليه العين بشكل مباشر، إنها مكونات عقلية وروحية ومفاعيل قادرة على مقاومة السقوط، وحين يقرأ العربي الجريح الذي ينزف من الماء إلى الماء، ومن الوريد إلى الوريد كتابات من هذا الطراز قد يصاب بالدهشة؛ لأنه يخلط بين المدنية والحضارة، وبين الكم والكيف وبين العابر والأبدي!
فهل نحن مضطرون بين وقت وآخر لقراءة ما يقوله الآخرون عنا كي نستعيد الثقة بالنفس؟