خميسيّات اللهجات: السودانيّة
عبد اللطيف الزبيدي
لماذا يتكلم السودانيون لهجتهم (لهجاتهم) المتميزة؟ بين الباحثين في تلك الديار فتنة. من أبرزها ما دار بين أكبر دارس في الميدان الراحل د.عون الشريف قاسم، صاحب «قاموس اللهجة العامية في السودان»، وبين فؤاد عكود مؤلف «من ثقافة وتاريخ النوبة». تضطرب المنهجية لتعصب الأوّل للعربية، وارتفاع النبض النوبي لدى الأخير. يقيناً، تتداعى دعائم البحث الأكاديمي النزيه.
ثمة نبراس خفي عن كل الباحثين الجادّين في لهجات البلدان العربية، إنه بلا شك بوصلة موازية تهدي إلى الأصول في الجغرافيا البشرية: الموسيقى ومقاماتها وطرائق أدائها. السودان، عربيّاً، حالة فريدة في سعة انتشار المقام الخماسي. الإثنوموسيقى علم قائم بذاته. نحن إذاً في تأثيرات النوبة، مجرى النيل بكامله وكل إفريقيا ومؤثرات أخرى. تحت وطأة اللامعقول في تحميل القومية ما لا تحتمل، نسينا أن الإسلام وحّد الشعوب، بحضاراتها وثقافاتها ولغاتها المختلفة، وجعلها أمّة واحدة ناطقة بالعربية، ومنها من ظل على عقيدته ولسانه. الأمّة العربية (المصغرة عن الأمّة الإسلامية) هي نوع من الولايات المتحدة، لغتها الرسمية لا تلغي الإثنيات والجذور، وأثرها اللسانيّ في اللهجات.
اللهجة السودانية هي يقيناً أكبر مسرح للغات الأفروآسيوية، والأشد تعقيداً في التأصيل. لا يوجد من بين الباحثين، من لديه إلمام بالمنظومة: النوبية، المصرية القديمة، البجاوية، الفور، المساليت، البرتا، الدنقلاوية، البقارة… والشواهد كثيرة على التقارض مع الأمازيغية وحتى الآرامية. في السودان (مثلما في ليبيا، تونس، الجزائر، سوريا والعراق…) يقولون: «قاعد أجري، قاعد ألعب كرة»، يرى باحث سوداني أنها ترجمة للفعل النوبي «آق» بمعنى قعد، جلس. غير مقنع كثيراً، فكل تلك الشعوب أخذتها من الآرامية «كاد» أو «كد»، أي في صدد. لعلها أخت «قد»، ففي القرآن دخلت على المضارع لتفيد الإثبات: «قد نرى تقلّب وجهك في السماء» (البقرة 144). يوضح الباحث أن «آق» في النوبية لها استخدامان، الأول فعل الجلوس، والآخر فعل مساعد يدل على الكينونة والاستمرارية مثل «اينج» الإنجليزية أي في صدد. من هنا تكون «كاد» الآرامية إلى الصواب والمنطق أقرب، لكونها في كل مكان وجدت فيه الآرامية.
للباحثين مهاتراتهم الطريفة (مثل معاجمنا الكبرى)، عندما لا يعرفون الأصل يشطحون. «كلكل» في السودان تعني دغدغ، يبحثون عنها عند امرىء القيس: «وناء بكلكل». بينما هي أخت «كركر»، قهقه في المصرية القديمة المولعة بالمقطع الصوتي المكرر. بل إن «لسان العرب» يقول في الدغدغة «أحسبها عربية»! أطرف من ذلك «شكشاكة» أي رذاذ المطر، يُرجعها الأكاديمي إلى فعل شك أي طعن، مستشهداً بعنترة: «فشككت بالرمح الأصم ثيابه»، فالرذاذ يطعن الأرض! لطائف أطلق عليها القلم اسم «قاموس هو شيء منه»: عشان، على شأن. شنو، أي شيء هو. هسه، هذه الساعة. هسة آرامية. واد (ولد) مصرية قديمة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الضرورية: هذا عمل مجمع متخصص متعدد اللغات. شتان ما بين الأكاديمي والكوميدي.
abuzzabaed@gmail.com