مقالات عامة

ديمقراطية بوتين والدولة الغربية المستحيلة

الحسين الزاوي

تشهد روسيا يوم غد (الأحد) 18 آذار /‏ مارس، الدور الأول من الانتخابات الرئاسية التي يرى فيها المراقبون الغربيون مناسبة للرئيس المنتهية ولايته فلاديمير بوتين، من أجل إحكام قبضته على السلطة في روسيا والحصول على عهدة رئاسية جديدة، تمتد إلى غاية سنة 2024؛ بينما ترى فيها روسيا مناسبة جديدة من أجل مواجهة محاولات الغرب بقيادة الولايات المتحدة، الهادفة إلى زعزعة استقرار البلاد من خلال التدخل في مسار هذه الانتخابات، رداً على الاتهامات التي أطلقتها واشنطن ضد موسكو، بشأن تدخلها المفترض في الانتخابات الرئاسية الأمريكية خلال 2016، وهي المسألة التي ما زالت محل جدل سياسي وقضائي كبيرين داخل أروقة السلطة في واشنطن.
وتنطلق الانتقادات الغربية لمسار الانتخابات الرئاسية في روسيا من واقع ما يلاحظه المراقبون من غياب شبه مطلق لعنصر المفاجأة في هذا الاقتراع، والناجم، في اعتقادهم، عن سيطرة «البوتينية» على العملية السياسية برمتها، بشكل يتيح لمؤسسة الرئاسة التدخل في اختيار المرشحين الذين يعملون على تعزيز فرص الرئيس الحالي من أجل الفوز بولاية رئاسية رابعة. وتكون من ثمة إمكانية تهديد هؤلاء المرشحين للترتيبات التي جرى وضعها من أجل إنجاح هذا الحدث الاستثنائي، شبه منعدمة. ويخلص المراقبون الغربيون إلى أن المسار الانتخابي الراهن يمثّل بالنسبة للكرملين مناسبة مهمة، من أجل إبراز عدم جدية البرامج التي تقدّمها القوى السياسية التي تطرح نفسها كبديل للسلطة الحالية، والمتمثلة في التيارين الكبيرين، الليبرالي المطعون في انتماءاته الوطنية من جهة، واليساري – الشيوعي الذي يقدّم أطروحات غير واقعية بالنسبة لمستقبل البلاد من جهة أخرى.
تذهب بعض مراكز البحث المتخصصة في الدراسات الاستراتيجية، إلى أن التحفظات التي تسجلها الأوساط الغربية على مجريات العملية الانتخابية في روسيا، لا يعطي بالضرورة مصداقية كاملة للمسار الديمقراطي المنتهج في الكثير من الدول الغربية، وبخاصة بعد أن عبّر ترامب مؤخراً، عن إعجابه بمبدأ الرئاسة مدى الحياة الذي أقرّه البرلمان الصيني يوم الأحد الماضي. وزيادة على ذلك فإن الممارسة الديمقراطية في الدول الغربية لا تستند كلها وبشكل فعلي على فلسفات العقد الاجتماعي ولا على وثيقة «الماجنا كارتا» التي سمحت للنخب السياسية في بريطانيا بممارسة لعبة تبادل الأدوار، بشكل يصعب محاكاته بالكفاءة نفسها في الدول الغربية الأخرى؛ فقد بدأ – مثلاً- النظام الانتخابي الأمريكي يفقد بريقه بسبب اعتماده على آلية تقوم بفرز وتصفية المرشحين في الأدوار التمهيدية المغلقة، وذلك قبل إجراء الانتخابات الرئاسية العامة، القائمة أصلاً على الاختيار بين مرشحين مفروضين من داخل الأطر التابعة للحزبين المهيمنين.
كما اشتكى الناخبون الفرنسيون خلال السنة الماضية، من وجود ترتيبات تفتقد إلى الشفافية، عندما فرضت عليهم الوضعية الانتخابية في دورة الإعادة، الاختيار ما بين السيِّئ والأسوأ، وذلك على إثر قيام «الدولة العميقة» باستبعاد المرشح الأوفر حظاً من خلال اعتماد تقنية صناعة الفضائح. وتعاني اللعبة الديمقراطية في باقي الدول الغربية، بالإضافة إلى كل ما تقدم، أزمات حقيقية باتت تهدد وحدة هذه الدول، فقد أدت الانتخابات البرلمانية في إيطاليا إلى ترسيخ حالة الانقسام بين الشمال والجنوب، وأسهمت بشكل لافت في انتشار توجّه شعبوي انتهازي لدى الأحزاب السياسية، أطلق عليه عالم الاجتماع الإيطالي ديامانتي مصطلح «الشعب -قراطية»؛ ومن غير المستبعد أن تؤدي النزعة الانفصالية وتضارب الصلاحيات بين البرلمان الوطني وبرلمان إقليم كاتالونيا، إلى تفكيك وحدة المملكة الإسبانية. وفضلاً عن ذلك فإن التجربة الديمقراطية الصاعدة التي جرى التبشير بها في دول أمريكا الجنوبية، أظهرت محدوديتها الكبيرة بعد أن دخلت البرازيل في احتراب مؤسساتي ما بين مختلف التيارات الإيديولوجية.
وتدفعنا هذه الأزمات التي تعيشها اللعبة الديمقراطية في عقر دارها، إلى استحضار مقولة: «الدولة المستحيلة» التي تحدّث عنها وائل حلاق بشأن «الدولة الإسلامية»، وتجعلنا نستنتج من ثمة أن الدولة الديمقراطية الغربية ما زالت تبدو- حتى الآن- مستحيلة، خارج سياقها السياسي الأصلي، لأن عولمة الدولة القومية بمؤسساتها الحديثة، لا يؤدي حتماً إلى تعميم تجاربها الديمقراطية المحلية، التي تتفاوت أصلاً من حيث قدرتها على القيام بتمثيل حقيقي للإرادة الشعبية.
ومن ثمة فإن نواة وأصل التجربة الديمقراطية في الغرب يظل مرتبطاً بالحراك والتنوع المجتمعي اللذين يثريان التجربة السياسية ويجعلان الممارسة الديمقراطية أكثر سلاسة، ويحولان دون سقوط النخب السياسية في الاستبداد؛ وسيظل بالتالي، أفق الحلم الديمقراطي البشري أوسع بكثير من نموذج الدولة الديمقراطية الغربية المهددة بالإفلاس من مدريد إلى روما.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى