فجوة تطوّر معاني المفردات
عبد اللطيف الزبيدي
ماذا لو شطحنا قليلاً فتخيّلنا فقهاء لغتنا، الفراهيدي، ابن جني، عبد القاهر الجرجاني… وهم يتصفحون جرائدنا على الشبكة العنكبوتية؟ دعنا من تخطئة نحونا وصرفنا وتراكيبنا. ثم لا عليك بأبي الطيب، وهو يطالع آخر إبداعات شعرائنا مقهقهاً، مردداً قوله: «والشعر تهذي طماطمهْ». هل سيفهمون شيئاً من عربيتنا؟ نصف القضية هو المصطلحات التي لم يعهدوها، النصف الآخر، وهو مبحثنا، يتمثل في أن المفردات التي أحاطوا بمعانيها، تطورت دلالاتها. الأمر يشاكل قراءتك الألفاظ الفرنسية اليوم، بمعانيها اللاتينية القديمة.
العربية الحديثة، التي نكتبها ونتخاطب بها، حين نتظاهر بالفصاحة والبلاغة، هي في الحقيقة متاحف افتراضية لبيئات لم تعد تربطنا بها صلة. لو عادت بنا آلة الزمن إلى تلك الجذور، أو زارنا أهلوها، لصارت محادثاتنا حوار طرشان. يتوهم غير العارفين أن هذه المسألة لم يكن لها وجود بتاتاً في عصر المتنبي مثلاً، ظناً منهم أن المفردات في عصره غير مختلفة المعاني عمّا كانت عليه في الجاهلية. للبرهنة على عكس هذا الوهم، لا يوجد في ميراثنا اللغوي ما هو أروع وأمتع من الكتيب الذي أبدعه فقيه اللغة الكبير أحمد بن فارس (القرن الرابع الهجري): «فتيا فقيه العرب» (مجاناً على الشبكة)، علم غزير، ودعابة بلا نظير. أين مناهج العربية من هذه الكنوز؟ هي دائماً غائبة عن تعليم الأهم: الإحساس بجمال اللغة، هذا السفر الصغير الكبير منجم طرائف ولطائف.
لا بدّ من وقفة عند ابن فارس قبل الاستئناف. يتخيّل اللغويّ نفسه فقيهاً يستفتونه فيفتي (كل السفر على هذه الشاكلة: قيل له: هل بحمل الصبي اللاعب، في الصلاة، بأس؟ قال: لا (اللاعب الذي يسيل لعابه). قيل له: ما تقول في الرجل يطأ السماء ثم يصلّي؟ قال: لا بأس بذلك (السماء: المطر). قيل له: هل في الربيع صلاة؟ قال: نعم، إذا نضب ماؤه (الربيع: النهر). قيل له: رجل ضرب صيداً بمخلبه فقطعه نصفين، هل يجوز أكله؟ قال: نعم (المخلب: المنجل). قيل له: هل تجيز الصلاة في الفرّوج؟ قال: إن كان تحته ما يستر فنعم (الفرّوج، القباء). قيل له: هل تجوز صلاة المفتري؟ قال: نعم (المفتري، الذي عليه فرو). قيل له: هل يجوز بيع الطريق إلاّ واحدة غير معلومة؟ قال: لا (الطريق: النخل). قيل له: هل تقطع يد الصبيّ في السلّة؟ قال: لا (السلّة، السرقة). هل فوق هذا الإبداع الساخر من قمّة؟
الآن، لك أن تسأل: كيف ينبغي للغويّينا الجدد الرضا القانع (من القنوع لا القناعة)، بالرجوع إلى معاجم الماضي في لغة زماننا؟ أليس عليهم أن يتدبّروا أمرهم ويشمّروا عن سواعد أدمغتهم، لوضع معجم يحترم ضرورات علم تطوّر المعاني والدلالات، فيتضمّن المسار الزمانيّ للمضامين اللغوية والاصطلاحيّة؟
لزوم ما يلزم: النتيجة الغرائبية: حتى مفرداتنا نحرمها فتح عينيها على دنيا التطوّر.
abuzzabaed@gmail.com