الأرض الأخيرة .. قصة فلسطينية
تأليف: رمزي بارود
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
شهدت فلسطين في العقود الأخيرة الحروب الممنهجة، والنزوح الجماعي، والهجرات الملحمية. يأتي هذا الكتاب ليبحث في تاريخ الهوية الفردية والجماعية ضمن فلسطين الحديثة، من خلال ذكريات الفلسطينيين العاديين الذين عاشوها، ونادراً ما رووها. يعتمد المؤلف رمزي بارود على عشرات المقابلات لإنتاج قصص حية وحميمة ومكتوبة بشكل جميل عن حياة الفلسطينيين، في القرى ومخيمات اللاجئين والسجون والمدن، في أراضي أسلافهم وفي المنفى.
يكشف نهج الدكتور رمزي بارود عن الأبعاد الإنسانية الجديدة للقصّة الفلسطينية ضد الروايات «الإسرائيلية» المهيمنة، ويحاول استعادة ماضي فلسطين وحاضرها الحقيقي عبر شعبها.
يأتي الكتاب بعد مقدمة بقلم المؤرخ «الإسرائيلي» إيلان بابيه في تسعة أقسام ضمن 280 صفحة من القطع المتوسط هي: نهر القرف، أبو صندل، روح الحقل، إشعار الموت، مسيح بيت جالا، رسائل إلى هبة، حيّ في غزة، السماء الأخيرة، الفجر. وينتهي الكتاب بتذييل يعكس روح الكتاب تحت عنوان: أصداء التاريخ.
سياسات التطهير العرقي
يقول إيلان بابيه بروفسور التاريخ ومدير المركز الأوروبي للدراسات الفلسطينية في جامعة إكستر البريطانية في مقدمة العمل: «النكبة المستمرة هي حتى الآن المرجع الفلسطيني العام إلى العمر والزمن الذي كانوا يعيشون فيه خلال السنوات السبعين الأخيرة. هذا يعني أن الفصول المنفصلة في تاريخ الفلسطينيين، مثل كارثة 1948، هي ليست أحداثاً في الماضي، بل بالأحرى هي جزء من فصل تاريخي معاصر. ولا نزال في هذه المرحلة المحددة، وبالتالي عندما نكتب تاريخ لحظات تاريخية محددة، مثل النكبة، فإننا نكتب عن القضايا المعاصرة بقدر ما نكتب عن الأحداث الماضية».
ويضيف: «هذه الحالة من العلاقات تم الاعتراف بها مؤخراً من قبل علماء تبنوا وطبقوا المخطط الاستعماري الاستيطاني على دراسة الحالة في فلسطين. فالراحل باتريك ولفي أحيا المخطط، مع اهتمام خاص بفلسطين، وصرح أن الاستعمار الاستيطاني ليس حدثاً، بل تركيباً. وحقاً، بمعاينة تاريخ الحركة الصهيونية في فلسطين، يتضح بجلاء أن المشروع الاستعماري الاستيطاني الذي بدأ في أواخر القرن التاسع عشر لم ينته بعد، كما أن النضال ضده لم ينته بعد».
«هذا المفهوم لكارثة مستمرة والنضال ضدها اختزل في محن وتجارب أبطال وبطلات هذا الكتاب الذي ينتمون لأجيال فلسطينية مختلفة وينحدرون من مواقع جغرافية مختلفة».
«ومن خلال التفاصيل الصغيرة في القصص الشخصية التي انتشرت بين أجيال فلسطينية يمكن للمرء أن يفهم تماماً التأثير الكامل الذي يمكن أن تخلفه مثل هذه التجربة متعددة الأوجه على الفرد الفلسطيني، وكذلك الروح الجمعية للفلسطينيين بشكل عام، وعلى اللاجئين الفلسطينيين بشكل خاص».
ويضيف أن «هذه السردية تنقل هذا الإحساس بقوة عن نقطة زمنية متجانسة وصحية يعيش فيها الفلسطينيون، وفيها تحدث وقائع وجودية عارضة. ومع المرحلة الحالية في حياة فلسطين والفلسطينيين، أخذ القمع والإيذاء أشكالاً مختلفة وفقاً لظروف الزمان والمكان. ففي عام 1948، واجه الفلسطينيون المجازر والتطهير العرقي. وأولئك الذين عاشوا بعد ذلك في«إسرائيل»كأقلية كانوا تحت الحكم العسكري الذي انتهك حقوقهم الإنسانية في كل مرحلة من مراحل حياتهم تقريباً. في غضون ذلك، أنكر على اللاجئين حقهم في العودة وانضموا إلى موجة أخرى من الفلسطينيين المقتلعين من أراضيهم في أعقاب حرب 1967.
سلب الأراضي الفلسطينية
أصبحت طرق انتزاع الأراضي الفلسطينية أكثر تعقيداً، وفي العديد من الأشكال أكثر شراً ووحشية في الضفة الغربية وقطاع غزة في السنوات الخمسين الأخيرة، ولا تزال مستمرة حتى اللحظة. فقد استخدمت«إسرائيل»منهجية جديدة في القمع منذ تغير الظروف التي جعلت من سياسات التطهير العرقي غير مؤثّرة بعد 1948. لقد تغيرت الطرق، لكن الرؤية التي تدفعهم هي نفسها، ونموذج لكل الحركات الاستعمارية الاستيطانية في الماضي: أي أخذ الأراضي من دون الشعب كما يرى بابيه.
ويشير إلى أنه «حل مكان التطهير العرقي – باعتباره من الوسائل الأساسية في تنفيذ هذه الرؤية – أشكال من القمع والسجن والخنق المكاني. تم فرض هذا النظام على الفلسطينيين الذين بقوا في إسرائيل ووضعوا تحت حكم عسكري قاسٍ بين 1948 و1967. كان المبدأ بسيطاً جداً، إذا لم تستطع إزالة الناس من مكان فعليك أن تحصرهم فيه، وبالتالي لا يمكنهم التحرك بسهولة أو يوسعوا مناطق سكنهم. نفذت هذه السياسة بوحشية في المناطق الفلسطينية داخل «إسرائيل» حتى عام 1967، وثم تحولت إلى نظام يطبق على الضفة الغربية وقطاع غزة». ويقول بابيه:«مهما تكن الطرق الصهيونية المستخدمة، دائما ما تقابل بمقاومة فلسطينية».
ويقول بابيه في ختام حديثه:«إن الوحشية التي ابتلعت الفلسطينيين أكثر من مرة أثرت أيضاً في الملايين في المنطقة. فالبربرية في سوريا والعراق وليبيا واليمن تستحق انتباهنا واستنكارنا. علاوة على ذلك، علينا ألا ننسى أن هذا النوع من الوحشية السائدة في فلسطين خلال أكثر من قرن واللامبالاة العالمية تجاهها، وفي الواقع المدعومة في كثير من الأحيان، تعد واحدة من الأسباب الرئيسة التي يشعر بها الغرب ويبقى عاجزاً في ضوء المجزرة الحالية. فقط من خلال دفع انتباهنا إلى الدور الغربي في عملية انتزاع أراضي الفلسطينيين، والتي بدأت قبل مائة سنة مع وعد بلفور، نلاحظ بشكل كامل مسؤولية الغرب عن الفوضى في الشرق الأوسط».
«يمكن للمرء أن يغفر للمجتمعات العربية وسياسيّيها الحالة المريعة التي يجد الشرق الأوسط نفسه فيها اليوم، فهذا معلوم ولا يمكن إنكاره. فمصير السكان الأصليين لفلسطين، كما مصير العديدين من حول العالم الذي ألحق الغرب به الدمار والخراب، مرتبط ارتباطاً وثيقاً بمستقبل أفضل ومؤمّل للشرق الأوسط ككل».
أصداء التاريخ
يتناول الكاتب في عمله هذا قصص ثماني شخصيات فلسطينية تعكس واقع المجتمع الفلسطيني في المناطق التي لجؤوا لها، كما تبين كيف أن الآلام والأحزان تتشابه، من بينهم قصة الشاب خالد اللباني المعروف باسم«ماركو» الذي هرب من مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق أثناء الحرب في سوريا، وقبله بعقود قصة أحمد الحاج الذي كان يقطن قرية الصوافير في عام 1948 وسرده المعاناة عن التطهير العرقي الذي مارسته القوات«الإسرائيلية» المعادية.
كما يعكس المحادثات التي جرت بين امرأتين فلسطينيتين في سجن«إسرائيلي» والتي يجدها انعكاساً لمحادثات امرأتين اجتمعتا في حقل من حقول غزة بعد هربهما من قسوة الحرب وبؤسها. يرى أنه بالرغم من فارق السنوات والأميال بين هؤلاء النساء، إلا أن محادثتهن مشتركة في الحزن والألم وهذا ما جعل قصصهن متشابهة بشكل حتمي.
يحاول الكاتب عبر تركيزه على تفاصيل ويوميات هذه الشخصيات أن يكشف عن الأرضية المشتركة للسردية الفلسطينية، والتي غالباً ما تكون منفصلة بسبب الانقسامات السياسية، والعوائق الجغرافية، والجدران، والتحزبية، والاحتلال العسكري، والسنوات القاسية في المنفى.
ما نقرأه من قصص في هذا العمل يعتبر بحق وثيقة فريدة في قالب سردي عن تاريخ الشعب الفلسطيني الذي يتحدى الروايات والقصص والمرويات الشعبية والأكاديمية الأولى عن القصة الفلسطينية الجمعية، بغض النظر عمن رواها ولماذا رواها.
شخصيات الكتاب تبدو معقدة من ناحيتها الشخصية، فالظروف التي وجدت نفسها فيها كانت قاسية، كما أن حقيقة أن كل واحد منهم كان مشاركاً نشطاً في صياغة واقعه يعطي كل قصة إحساساً من الفرادة والعمق الإنساني. ويعلق الكاتب على ذلك:«فقط عندما تلتقي وتتداخل هذه القصص، يصبح الكفاح الفلسطيني صدى قوياً لتجربتهم الجمعية العميقة».
يمكن قراءة كل فصل في العمل بشكل منفصل، فكل شخصية فيه تعد أيقونة لتجربة جيل كامل. وعند قراءة الكتاب ككل، تجد الكاتب يروي قصة شعب«لا يمكن تلخيص تاريخه إلى جدول زمني من الصراعات، بل بدلاً من ذلك تجده مزخرفاً وممزقاً بعواطف إنسانية معقدة، وآمال، وأحلام، وصراعات، وأولويات يبدو أنها لا تدفع انتباههم إلى السياسة، والتوازن العسكري، أو الخصومات الإيديولوجية».
ومن ناحية أخرى يرى الكاتب أن هذه القصص لا تعني بالكامل أنها قصص الماضي المأساوية فقط، بل هي مسعى أيضاً لتقديم الناس العاديين كوكلاء نشطين في صياغة الحاضر والمستقبل. كما يهدف إلى ألا يكون مجرد كتاب يسد الفجوة في السرديات التاريخية المنفصلة، بل يسعى إلى تقديم وجهة نظر موحدة عن الهوية الفلسطينية في الأزمنة الحديثة.
كما يرى أن الهدف الأساسي بالنسبة له من وراء هذا العمل هو تقديم«التاريخ الفلسطيني من القاع»، والذي يتحدى بشكل مباشر روايتين مهيمنتين تتعلقان بهذا الموضوع: الأولى هي التسويغ النخبوي للواقع السياسي الفلسطيني (الذي يرى التاريخ كنتيجة لأعمال فرد من مجموعة أو فئة)، أما الرواية الثانية النهج الاختزالي لأي موضوع يتعلق بالفلسطينيين، وهو سياق يتأرجح بين الرؤية المتطرفة التي تنكر وجودهم ذاته أو تقدم نضالهم والتطلعات الوطنية لهم ك«مشكلة»يجب معالجتها بسرعة.
يجد البروفسور بارود عمله مصنفاً ضمن التاريخ البديل، وذلك لأن القصص يقدمها الأفراد بطريقة تواجه ما يراه البعض أنه العديد من المفاهيم الخاطئة في السياق الأكاديمي والرسمي المتعلقة بالتاريخ الفلسطيني.
تفاصيل عن القصص
أجرى الكاتب حواراته ومقابلاته عبر تطبيق سكايب الإنترنيتي، وقام بتسجيل الأجوبة وتحريرها ومناقشتها، وعلى الرغم من أن الكتاب يروي قصص ثمانية أفراد، إلا أنه في الحقيقة هو نتيجة لهذه العملية المجهدة من البحث والحوار والنقاش، وقد قام بتغيير أسماء بعض الشخصيات بناء على طلب منها، وبعضهم لحماية خصوصيتها، أو بسبب عملها في حقوق الإنسان مع منظمات دولية. فعلى سبيل المثال في الفصل الأول«نهر القرف» يكون التركيز على«ماركو» لأن المعلومات العامة فيه صيغت من خلال مقابلات مع عدد من الناجين من مخيم اليرموك في سوريا وآخرون فروا إلى غزة، وتركيا، واليونان وأوروبا. وقد اختار الكاتب «ماركو» ليكون البطل في الفصل لأن خط القصة لديه كان متسلسلاً ومفصلاً ومقنعاً أكثر.
ويعد أحمد الحاج الملقب «أبو صندل»، الرواية الأكثر وضوحاً عن الحياة قبل النكبة، واختاره الدكتور رمزي بارود بسبب قدرته على سرد قصة حياته وأسرته في سياق النكبات والكوارث السياسية الكبرى التي ألمت بالشعب الفلسطيني. أجرى بارود الحوارات معه على مدى أسابيع قائلاً عنه:«إنه إنسان مدهش، ولديه القدرة على رواية القصص بذكاء، إذ يستطيع نقل المأساة والملهاة من دون أن يفقد من مستمعيه الاحترام للحياة العميقة والمنضبطة التي عاشها. وعلى الرغم من أنه كان في الثالثة والثمانين وقتها، إلا أن ذاكرته كانت قوية وتصميمه في العودة إلى قريته الفلسطينية بدا بتلك القوة التي كان عليها في 1948».
نبذة عن الكاتب
– رمزي بارود صحفي ومستشار إعلامي ومؤلف ومحرّر ل«فلسطين كرونيكل». وهو باحث غير مقيم في مركز أورفاليا للدراسات العالمية والدولية، جامعة كاليفورنيا سانتا باربرا. له العديد من المؤلفات من أبرزها: كتاب «أبي.. ذلك المناضل: قصة غزة التي لم تروَ بعد» (بلوتو، 2009). بارود حاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الفلسطينية من جامعة إكستر (2015). وهو معلق سياسي في وسائل الإعلام ومتحدث في المؤتمرات والمحاضرات العالمية، كما ترجمت أعماله حول القضية الفلسطينية إلى العديد من اللغات.