جديد الكتب

فرنسا ما بعد الكولونيالية

تأليف: بول أ.سيلفرستين

عرض وترجمة: نضال إبراهيم

تعتبر فرنسا رائدة في الشعور بالقلق ما بعد الاستعمار والسياسة الشعوبية التي تظهر في جميع أنحاء العالم اليوم. يستكشف هذا الكتاب ديناميات ومعضلات اللحظة الراهنة للأزمات والأمل في فرنسا، من خلال استكشاف الفزع الأخلاقي الحديث الحاصل بين القوميين الفرنسيين. ويتتبع الصراعات الناشئة عن توترات المشروع الإمبراطوري التي لم يتم حلها، ولا تزال تسبب المعاناة في حياة الكثيرين في فرنسا اليوم.
من خلال تقييم التوترات التي ظهرت خلال الربع الأخير من القرن الماضي، ينظر بول سيلفرستين إلى العنف الحضاري الحاصل في المناطق الحضرية بفرنسا، والزي الإسلامي للمرأة، والصلاة العامة للذكور، وموسيقى الراب المناهضة للنظام، والعروض الرياضية في وحول المناقشات التي تدور حول التعددية الثقافية في فرنسا.
وعلى الرغم من الحواجز التي تشمل العنصرية القومية الجديدة والكراهية تجاه المسلمين، فقد وجد المواطنون الفرنسيون من مختلف الخلفيات أساليب لهم لبناء حياة مزدهرة. يظهر الكاتب كيفية الاستجابة للتهميش في المناطق الحضرية، وعنف الشرطة والتمييز المؤسسي بطرق مبتكرة بشكل ملحوظ.
يأتي الكتاب في 240 صفحة عن دار «بلوتو برس» للنشر، وينقسم بعد المقدمة المعنونة «إلى أين فرنسا ما بعد الاستعمار؟» إلى سبعة فصول هي: 1) موضوعات متنقلة. 2) كيف تشعر أنها أزمة؟ 3) المسلم واليهودي. 4) علامات خطرة: شارلي إيبدو وديودون. 5) كرة قدم قلقة. 6) أماكن البحث عن المفقودين: الباركور والفضاء الحضري 7) دول الهيب هوب. الخلاصة: الحب ما بعد الاستعمار.

تاريخ الانقسامات

يعود الكاتب في مقدمته إلى فترات سابقة من التاريخ الفرنسي يقول فيها: «في نوفمبر/تشرين الثاني 1934، وسط الأزمات الاقتصادية وشغب الشوارع لليمين المتطرف في فترة ما بين الحربين العالميتين. طرح ليون تروتسكي السؤال الملح «إلى أين يا فرنسا؟». هل ستنحدر إلى الحماس العنيف للقومية الفاشية التي ميّزت جيرانها في الشرق والجنوب؟ أم أن الطبقة العاملة والفلاحية المستغلة ستنهض ضد عقود من البونابورتية البرجوازية التي أفلست المجتمع الفرنسي سياسياً، واقتصادياً، وأخلاقياً. وسأل: هل سيكون البديل الاشتراكية الثورية أو الاستجابة الفاشية وأيهما سيُظهر أولاً – قولاً وفعلاً – قدرته على التخلص من كل عائق على الطريق إلى مستقبل أفضل؟ وقال: على هذا السؤال يعتمد مصير فرنسا لسنوات عديدة قادمة.
واستكمالاً لما أشار إليه تروتسكي، يشير الكاتب إلى أن مصير فرنسا أصبح لسنوات تلي ذلك الوقت أحد الانقسامات الأصولية. إذ إن فرنسا أصبحت ممزقة إلى قطع بتأثير الغزو الألماني بعد بضع سنوات من سؤال تروتسكي، حيث الشمال تحت الحكم النازي والجنوب يتمتع بحكم ذاتي تحت قيادة فيشي، وحكومة قوات فرنسية حرة في المنفى بقيادة شارل ديجول. الانقسامات الأخلاقية والإيديولوجية والتكتيكية بين «التواطؤ» و«المقاومة» استمرت في تحديد المشهد الاجتماعي السياسي الفرنسي لفترة طويلة بعد «التحرير» الشكلي في عام 1944، متحولة إلى روايات قومية متنافسة موجودة بين «فرنسا الحقيقية» الكاثوليكية والريفية والجمهورية المدنية والعلمانية.
ويشير إلى أن «المشهد بعد الحرب كان إمبريالياً بشكل بارز، وتوضح ذلك من خلال العلاقات الإدارية مع الأراضي الخارجية، حيث تم منح الجنسية لرعايا المستعمرات، واستقطاب الطلاب الكاريبيين والآسيويين والإفريقيين والجنود والعمال الذين حملوا نوعاً ما عبء التحرير، وإعادة بناء فرنسا أو فترة العقود الثلاثة من الازدهار التي أعقبت التحرير».

تجاوز الحدود الوطنية

تتداخل فصول الكتاب في تقييمها لفرنسا ما بعد الكولونيالية، كحاضرٍ معيش وتوجهٍ مستقبليٍ. الفصل الأول منه يعتمد على العمل التأسيسي لعالم الاجتماع عبد المالك صياد، لاستكشاف التنقل العابر للحدود الوطنية كأسلوب يومي، وأبعاد هيكلية للحياة الشخصية والعائلية في فرنسا. ويشير إلى أنه «في حين أن الرجال والنساء الفرنسيين الملونين يعينون بشكلٍ واسعٍ داخل الهياكل الاجتماعية والسياسية للدولة القومية الفرنسية، فإن مثل هذا الاندماج الكبير يتوسط العمليات المستمرة للمحافظة على الاتصالات الخارجية، وبعبارة أخرى، يعتمد البحث عن الوطن في فرنسا على القدرة ذاتها على تجاوز حدوده جسدياً ونفسياً».
ويضيف: «الرجال والنساء الذين ينحدرون من خلفيات مهاجرة بعد الاستعمار يحملون عبء مآزق ومعاناة الماضي معهم، وأصبحت جزءاً من تصرفاتهم وآرائهم تجاه العالم، وفي مواقفهم تجاه الحياة في فرنسا، وتصوراتهم عن استراتيجيات الخروج المستقبلي. ورغم أن العديد من آبائهم وأجدادهم سواء كانوا طلاباً أو عمالاً في المصانع أو المناجم قد شاركوا في النضال ضد الاستعمار، فإن نشاطاتهم ونتائجهم نادراً ما تذكر، وآخرون كانوا ببساطة غير قادرين على اتخاذ أي حركة بسبب موقعهم الضعيف. يستمر الناشطون من هذه الخلفيات منذ الثمانينات بالتذكير بماضيهم وبما قدموه لفرنسا، وكذلك عن معاناتهم، واستغلالهم في العمل والاستغلال الذي تعرضوا له».
خاتمة هذا الفصل: «إن التفكير فيما بعد الدولة-الأمة كان مشروعاً مستمراً يشكل قلقاً للأكاديميين والنشطاء لعدد من العقود. إذا ما استمرت جهود الدول في إبقاء احتكارها على العنف الشرعي والتحكم المالي من دون توقف، فإن الأمم التي يحكمونها لن يكون بالإمكان احتواؤها من خلال الحدود الإقليمية والعرقية المحددة. وتحت عنوان تجاوز الحدود الوطنية، علماء الهجرة أبرزوا بشكل مهم هذه الخطوط من الانقسام المحتمل، خاصة التشكيك في الأهداف النهائية للاستيعاب الذي من المفترض أن يخضع له المهاجرون، داعين إلى مسألة «بوتقة الانصهار» التي من المفترض أنها حولت بشكل سحري الفلاحين الشمال إفريقيين إلى رجال فرنسيين. لكن عند التفكير بتجاوز الحدود الوطنية كهدف أحادي الجانب يستمر في توحيد المهاجرين وأحفادهم مع «أوطانهم» الثقافية والجغرافية هو افتراض أن كل المهاجرين مثلما يتحدث عنهم الكاتب جيمس فيرجوسون في منطقة كوبربيلت على حدود زامبيا، والمخاطرة في التأكيد على الفزع القومي الجديد الذي يعتبر الفرنسيين المسلمين طابوراً خامساً يسعون لمستقبل «أورابي» أي عربنة وأسلمة أوروبا. وهذا المصطلح يدخل ضمن نظرية المؤامرة التي يدافع عنها أنصار اليمين المتطرف في أوروبا.

عوائق سياسية

في الفصل الثاني، يتناول المؤلف الحجاب الإسلامي، والتحول الديني، والتطرف باعتباره هاجساً متكرراً للدولة ولوسائل الإعلام، والذي يولد جهوداً قانونيةً لتنظيم وتحديد التدين والتحكم فيه، بالإضافة إلى مواضيع إسلامية علمانية جديدة مثلما تطرح فضيلة عمارة، وهي كاتبة الدولة المسؤولة عن السياسة الحضرية في حكومة فيون الثانية بالجمهورية الفرنسية، وعائلتها من أصل جزائري. يرى الكاتب أن هذه المخاوف وصلت إلى ذروتها مع صعود «داعش» وعنفه العابر للحدود، لكن مراقبة الدولة الفرنسية للحياة الإسلامية وثّقت الهجمات الأخيرة المأساوية. ويركز الفصل على كيفية تقويض الحياة، ما بعد الكولونيالية في فرنسا، بشكل متزايد من خلال عسكرة الفضاء المدني وعلمنة التعبيرات الثقافية والدينية.
ويعاين الفصل الثالث العوائق السياسية أمام بناء الشعور بالوطن في فرنسا ما بعد الكولونيالية، والتي يواجهها الرجال والنساء الفرنسيون الملونون على شكل من العنصرية والتمييز، ويركز الكاتب فيه بشكل خاص على الخطابات والممارسات المشتركة مثل الإسلاموفوبيا، ومعاداة السامية، والتي يُنظر إليها على أنها تقسم نموذج فرنسا ما بعد الكولونيالية ضمن حدود التسامح. ويستكشفُ كيف يميل الرجال والنساء الفرنسيون الملونون إلى تهميشهم بسبب حساسيتهم للإسلاموفوبيا والفشل – على ما يبدو – في إجراء نقد مناسب لمعاداة السامية والقيود التي تفرضها هذه المطالب على أشكال التعبير عن الذات. ويناقش أيضاً مختلف الجهود الرامية إلى خلق حوار عبر تضاريس الفوارق الدينية، ولا سيما تلك التي تعود لإيسثر بينباسا وجان كريستوف آتياس.
ويمضي الفصل الرابع أيضاً في مناقشة وتحليل قضايا معاداة السامية والإسلاموفوبيا في سياق الهجمات على صحيفة «شارلي إيبدو». والملاحقة المتكررة للفكاهي الفرنسي الساخر والمثير للجدل ديودوني مبالامبالا، وحديثه عن الكراهية. وبدلاً من أن يعلق الفصل على النفاق الواضح الذي يتضح من المعاملة التفضيلية لممثلي شارلي إيبدو وديودوني، يركز على التضمينات والاستثناءات المتولدة، وأنواع التضامن المختلفة التي يطلق عليها بتعابير عامة مثل «أنا شارلي» أو (التحية النازية).

خلافات متكرّرة

ويركز الفصل الخامس على الخلافات المتكررة حول اختيار وأداء المنتخب الوطني الفرنسي لكرة القدم. إذ يعتبر الفريق الوطني لكرة القدم، بمثابة الرائد في مجال التكامل والتعددية الثقافية، والذي يتلقى معاينة غير متناسبة، كما أن لاعبيه الملونين يخضعون لمعايير مستحيلة. فالضربات الرأسية لزين الدين زيدان خلال مباريات كأس العالم لعام 2006 أعطته موقعاً، ولكنها لم تمحُ تراثه. وتُقارَن شخصيته البطولية مع شخصية اللاعب الفرنسي الإفريقي نيكولاس أنيلكا بين جيل من اللاعبين المسلمين الفرنسيين المتهمين بالانطواء الذاتي والولاءات غير المؤكدة، لا سيما في أعقاب الفشل الذريع للمنتخب الفرنسي في بطولة كأس العالم لعام 2010.
ويركز الكاتب في الفصل السادس على الرياضة كموقع ثقافة ما بعد الكولونيالية، ويستكشف الفصل ظهور الممارسة الرياضية للجري الحر بين الشباب الفرنسيين من الرجال والنساء الملونين مجتمعة مثل ديفيد بيل وسيبستيان فوكان، كوسيلة لاستعادة المساحات الهامشية من العقارات السكنية في الضواحي، وتحويل هياكلها المبنية للإقصاء إلى ملاعب لصنع الذات.
ويقول الكاتب: «من خلال هذه المشاركات الرياضية، يحاول المواطنون الفرنسيون الشباب في الهامش أن يتحدّثوا إلى هياكل السلطة، ويشكلوا قدراً من التأثير في المجتمعات المحلية».
والفصل السابع كذلك يدور حول المدن ويتمحور حول ابتكارات فن ال«هيب هوب» لعبد المالك صياد، وميدين، وكيري جيمس وغيرهم، وهو يتناقض مع أشكال مختلفة من أشكال المتشددين والصوفيين الذين ظهروا في أعقاب العنف المناهض للشرطة في عام 2005، وهو أكثر أشكال المواجهات صدىً، والتي تمت مواجهتها عبر ثلاثة عقود في ضواحي مشاريع الإسكان في فرنسا. وعارض مشروع الأساليب المختلفة لفن الهيب هوب، رؤى «الجيتو» أو التراث الوطني والانتماء، والمفارقات المختلفة من الكراهية الكاملة ضد فرنسا العنصرية (والشرطة التي يبدو أنها تمثلها) والحب الروحي لها كموقع للفكر والثقافة.
تتوقف الخاتمة على مسألة طلب «حب فرنسا أو تركها» وكيف استجابت شخصيات المجتمع الإسلامي الفرنسي لهذا الطلب من خلال لغة إعادة صياغة الحب. كما يناقش كيف تجاوزت فرنسا تحركات التضامن عبر أوروبا والمحيط الأطلسي.

نبذة عن الكاتب

** بول سيلفرستين يحمل شهادة الدكتوراه في الإنثروبولوجيا (علم الإنسان) من جامعة شيكاغو 1998. وهو حالياً أستاذ علم الإنثربولوجيا في كلية (ريد أوريجون) الولايات المتحدة الأمريكية. يكتب في سياسة الهوية وما بعد الكولونيالية، والثقافة الشعبية للشتات في فرنسا وشمال إفريقيا، والهجرة، العرق/الإثنية، القومية، الاستعمار / ما بعد الكولونيالية، السياسة الثقافية، الرياضة، الإنثروبولوجيا الحضرية، الإنثروبولوجيا التاريخية، نظريات الممارسة، النظرية الماركسية وما بعد الماركسية، الإسلام، فرنسا، شمال إفريقيا، الشرق الأوسط. له العديد من الكتب من بينها: الجزائر في فرنسا«(2004)؛»الذاكرة والعنف في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا«(2006)؛»بورديو في الميدان: السياسة الاستعمارية، الممارسات الإثنوغرافية، التطورات النظرية (2009).

زر الذهاب إلى الأعلى