مواطنو المجهول
تأليف: لورنزو مارسيلي ونيكولو ميلانيز
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
تبدو أوروبا اليوم وكأنها قارة تمزّق نفسها. فعشر سنوات من الأزمات الاقتصادية والسياسية كانت كافية لتضع الشمال في وجه الجنوب، والشرق في وجه الغرب، والمواطنين في وجه المؤسسات. ومع ذلك، بيّنت هذه السنوات أيضاً حيوية خفية للأوروبيين عبر الحدود، حيث أظهر المجتمع المدني وجود بدائل للوضع الراهن. يعدّ هذا الكتاب سرداً لتجربة نشاط المجتمع المدني وبياناً من أجل التغيير، وذلك من خلال تحليل الطرق التي تتشابك فيها النيوليبرالية والقومية والحدود.
من التقشف إلى تغير المناخ، أصبح شعار «ليس باسمنا» صرخة حاشدة للحركات الاحتجاجية في جميع أنحاء العالم. ولكن تحت أي اسم يرغب الأوروبيون في التصرف، إذا كانت لهذه الحركات أن تتخطى مرحلة الاستياء إلى إحداث تغيير مؤثّر؟
في هذا العمل الذي يعد بمثابة بيان وبرنامج للتغيير، يجادل الناشطان لورنزو مارسيلي ونيكولو ميلانيز بأننا وسط تحول كبير، وهو في الأساس إعادة تعريف لطبيعة الاقتصاد والمشاركة السياسية. لكن الديمقراطيات الأوروبية فشلت حتى الآن في مواكبة تأثير العولمة والتغير التكنولوجي، وخلقت إحساساً عميقاً بالعزلة، مما جعل العديد من الأوروبيين يشعرون بأنهم «مواطني المجهول».
بالاعتماد على خبرات الناشطين والحركات في جميع أنحاء أوروبا، وتقديم دروس عملية حول كيفية حدوث التغيير، يظهر مارسيلي وميلانيز أنه من الممكن التغلب على خيبة الأمل الحاصلة على نطاق واسع، وتنشيط جيل جديد من الناشطين. ويحددان في هذه العملية، رؤية جديدة ومتجددة للديمقراطية، تتخطى الحدود الوطنية، والتي يتحول فيها مواطنو المجهول أو اللامكان إلى مواطني العالم.
يعدّ مارسيلي وميلانيز من مؤسسي «منظمة البدائل الأوروبية»، ويقولان: «إننا في منتصف تحول عالمي كبير، أصبحنا جميعاً مواطني المجهول». ويؤكدان أنه فقط من خلال التنظيم في حزب سياسي جديد يتجاوز الحدود الوطنية، سيكون مواطنو المجهول قادرين على النضال بفعالية من أجل المضي إلى التحول المثالي للعالم.
يقع الكتاب في 192 صفحة؛ وهو صادر عن دار «زيد بوكس» في يونيو/حزيران 2018 باللغة الإنجليزية، ويتكون من أربعة فصول بعد التمهيد والمقدمة وهي التالي: تمهيد بقلم تانيا بروجير، مقدمة: مواطنو المجهول. القسم الأول: ساعات مكسورة. الثاني: ساحر أوز. الثالث: إذا كانت أوروبا حصناً فنحن جميعاً في السجن. الرابع: ما بعد الأممية: حزب التكافل العابر للحدود الوطنية. خاتمة: مواطنو المجهول: صرخة احتجاج. كلمة أخيرة بقلم يانيس فاروفاكيس.
تجاوز الحدود الوطنية
يتعامل الكتاب مع حدود التدخل السياسي، ويدعو إلى أشكال جديدة من التضامن، ومؤسسات جديدة، وأحزاب جديدة تتجاوز الحدود الوطنية للدول. ويظهر لنا أنه لا يكفي أن نقاوم، بل علينا أن ندخل إلى ردهات السلطة، ونعيد اختراعها، سواء كانت معارض فنية أو برلمانات. ورغم أن الكتاب يتحدث عن أوروبا، لكنه يصلح كفكرة لكل مكان أيضاً، إذ إنه يتناول فكرة المركز والهامش. يركز الكتاب على مسألة كيفية تحويل عدم رضاك السياسي والاقتصادي والاجتماعي إلى تأثير سياسي ملموس.
ترى تانيا بروجير في تمهيدها أن حقوقنا أجحفت تحت نظام القومية والليبرالية الجديدة والذي يكون فيه المهاجرون – وغالباً جداً المهاجرات على وجه الخصوص – في خط المواجهة: فكلاهما يعاني من آثار هذا النظام، ويقودان النضال لأجل وجود بدائل.
وتعلق على ذلك بقولها: «كانت هناك لحظة مهمة عندما لعبت فيها أوروبا مع الأمل، كانت تلك اللحظة التي سمعنا فيها بتأشيرات الشينجن وحزب القراصنة، وبعملة موحدة، وآيسلندا تطالب البنوك وليس مواطنيها بأن يدفعوا ثمن أخطائها. اليوم، عندما نسيت أوروبا قصتها عن القوميات، والفساد الاقتصادي، وآثار معاملتها السيئة للمهاجرين، يبدو أن «تمرين الأمل» أصبح حكاية خرافية قديمة».
وتشير إلى أن لحظة المشاركة الشعبية تحولت إلى شعبوية، وأصبحت السياسة تمريناً ساخراً، يراها القليل على أنها شرعية. وبات الأمل السياسي يخرج من توليفة جمعية أعيد تخيلها، ويقترح طرقاً جديدة للوصول إلى السلطة. «هذا ما يفعله الناس، يأخذون الجانب السياسي بدلاً من السياسة التي تكون في متناول أياديهم، وهذا ما تعيده منظمات مثل البدائل الأوروبية إلينا: سلطتنا عبر قوة سياسية خلاقة تتجاوز الحدود الوطنية».
فهم المواطنة
يستند عنوان الكتاب على كلمة رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي في الخطاب الختامي لمؤتمر حزب المحافظين في أكتوبر/تشرين الأول 2016، عندما قالت: «إذا ما كنت تؤمن بأنك مواطن العالم، إذاً أنت مواطن المجهول أو اللامكان. ولا تفهم ماذا تعني كلمة (المواطنة) نفسها».
ويعلق الكاتبان على كلمتها: حاولت تيريزا ماي في هذا الخطاب أن تبعد نفسها عن عبارة مارجريت تاتشر الشهيرة: «ليس هناك شيء كمجتمع»، وبدلاً من تأكيدها على الروابط والالتزامات التي تجعل مجتمعنا يسير في الاتجاه الصحيح، ومهاجمة المشاهير والشركات التي تتهرّب من الضرائب، بالإضافة إلى مديري الشركات الكبرى عديمي الضمير الذين لا يهتمون بطواقمهم ولا يدربونهم. كان هذا هو الخطاب الذي حاولت فيه ماي أن تظهر «فلسفتها» و«رؤيتها» لأجل بريطانيا ما بعد التصويت على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في يونيو: إنها رؤية «بلاد تعمل لأجل الجميع، ليس فقط القلة من أصحاب الامتيازات»، والتي تخطو فيها الحكومة بسياساتها التدخلية خطوات لتصحيح المظالم، وتضمن التوزيع العادل للثروة والفرص، وتنهي نظام الحكم الواحد.
منذ أن أصبحت زعيمة في يوليو/تموز الماضي، كانت تحاول أن تتحدث بلغة حزب العمال من خلال تعريف المحافظين كحزب يدافع عن حقوق العمال، وهو حزب «إن إتش إس» أي (الخدمات الصحية الوطنية)، وحزب بناء المنازل، وحزب العدالة الاجتماعية.
ويضيفان أنه في الوقت الذي تكون فيه الشعبوية القومية لتيريزا ماي قمعية وغالباً ما تكون عنصرية، هناك طريقة خاطئة في قراءة عبارتها عن المواطنة التي تكشف عن حقيقتها العميقة وطاقتها المخفية. فإذا ما كنا نؤمن أننا كلنا مواطنو العالم، بالتالي لهذا السبب ذاته نحن مواطنو المجهول؟ يبدو هذا الأمر أشبه بمفارقة، وهي دلالة على أنها تعمل ضد الإحساس العام السائد. لكن الأمر يكون على وجه التحديد من خلال إضعاف الإحساس العام الإيديولوجي بأننا نستطيع انتشال الاستراتيجية القومية، في ذات الوقت نستعيد بعداً راديكالياً للمواطنة، ونخلق أفقاً ما بعد قومي للعمل السياسي، ونقدّم طريقة لإعادة تأطير مشاعر عدم التمكين المنتشرة.
البدائل السياسية
ويصف الكاتبان في الفصل الأول من العمل الطريقة الوحيدة لعرض البدائل السياسية الأصلية وهي تأطير المشكلة. ويوضحان أنّ الدولة لم تعد مركبة كافية تستوعب المشاركة المدنية المتقدمة، وأن إعادة تدخل راديكالية باتت مطلوبة لإعادة توجيه مسار السياسة العالمية.
ويستشهدان بالاقتصادي هيربيرت سيمون الحائز على جائزة نوبل، وهو منظّر في الذكاء الاصطناعي، الذي وضع ملاحظة مهمة حول تاريخ اختراع الساعة البحرية، إذ يقول إن عمل الساعة لا يعتمد فقط على آليتها وجوهرها، بل أيضاً على بيئتها، فالساعة الشمسية لا تعمل في أماكن لا توجد فيها شمس، وساعة البندول لا تعمل في البحر. وهذا المثال عند سيمون يأتي ليوضح حقيقة الوسيط بين بيئة المؤسسات «الداخلية» وجوهرها والبيئة «الخارجية» المحيطة بها والتي تعمل فيها.
ويقول الكاتبان في هذا السياق: «تشبه سياساتنا اليوم ساعة صنعت لأجل بيئة أخرى، ولزمن آخر، بالتالي تظهر للعديد منا أنها متوقفة بينما كل شيء من حولها أصبح عاصفاً، وبتنا نخاف الاصطدام بالصخور، وربما بدأنا بالتفكير بطرق لإنقاذ أنفسنا أو «النساء والأطفال أولاً»، وذلك يعتمد على أمزجتنا وأنانيتنا. لنكون دقيقين، لا يتعلق الأمر فقط بسياساتنا، بل بمؤسساتنا السياسية والطرق التي نفكر فيها بالسياسات التي لا تناسب أزمنتنا. إذا ما أردنا الانتقال بنجاح، علينا أن نعيد خلقها».
ويجدان أن «الكثير من حالات الاستياء الشعبي والأمل بالتغيير تركز إما على السياسات أو على الوجوه التي نريد استبدالها. لكن نعتقد أننا نحتاج إلى الغوص بشكل أعمق إذا ما أردنا استعادة تأثيرنا على العالم المضطرب خلال السنوات اللاحقة. التساؤل بشأن فهمنا للدولة، وتبني سياسة جديدة ما وراء الحدود، ستكون في قلب ابتكار ساعة جديدة لأجل بيئتنا. هذا ما نتوجه إليه الآن».
أزمة الهجرة
يناقش الكاتبان في الفصل الثاني أن الاقتصاد النيوليبرالي العالمي في الحقيقة يعتمد على سراب السيادة الوطنية لإخفاء عمليتها الأساسية، ويتوقفان فيه عند الشعار الأساسي لحملة «خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي» والذي كان «استعادة السيطرة». ويعلقان: «ليس هناك من إمكانية القدرة على التحكم بشكل كامل في المستقبل، وأن الحنين إلى الوراء في هذه المرحلة أمر مرفوض».
ويقف الفصلان الثالث والرابع عند مسألة الهجرة التي خلفت تأثيرها على السياسات الأوروبية، بل بلغت مرحلة باتت فيها أشبه بزلزال يهز أوروبا.
ويقول الكاتبان: «الاستجابة الحكومية الأوروبية للزيادة الأخيرة في الهجرة غير الشرعية يتعذّر تبريره، وعند النظر من وجهة نظر البلدان الأخرى، يبدو الأمر مشكوكاً فيه للغاية. الأمم المتحدة تقدّر أنه، بنهاية 2015، نزح 65 مليون شخص على مستوى العالم، و85 بالمئة من هؤلاء النازحين يعيشون في بلدان أفقر من الدول الأوروبية مثل تونس، تركيا، والأردن، ولبنان، وفلسطين».
ويضيفان: «أكثر من مليون مهاجر وصل «بشكل غير شرعي» إلى أوروبا في 2015، لكن أوروبا لديها سكان أكثر من 500 مليون، وهي من أغنى الأماكن على وجه الأرض. منذ 2015، انخفض عدد الواصلين إلى أوروبا، وهو ما عدّه السياسيون نجاحاً، محاولين بذلك تجنب المشكلة، لكن في الواقع يبحث هؤلاء ببساطة عن أماكن أخرى. هذا موقف مشين للاتحاد الأوروبي، الذي يزعم أنه تأسس على قيم احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان».
ويجدان أن اللحظة الأوروبية المشرفة كانت في صيف 2015 عندما حاولت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن تتصرف كزعيمة حقيقية لأوروبا، معلنة أن الوضع هو حالة طوارئ إنسانية، موضحة للمواطنين الألمان الواجب الأخلاقي للترحيب بهم، معترفة بأن هذا الأمر سيكون تحدياً لهم، لكنها كانت تطمئن بقولها «إننا نستطيع تجاوز هذا التحدي».
ويرى الكاتبان أن «الدولة الألمانية لم تكن مستعدة لاستقبال أعداد كبيرة من المهاجرين، وواجهت مشكلات تجاوزت قدرتها بشكل سريع».
ويذكران في نهاية العمل أننا سنبقى مواطني المجهول إذا لم نخلق تأثيراً سياسياً حقيقياً يغير الوضع الراهن، فاليوتوبيا التي نحاول العمل عليها هي متعلقة بمواطنين عابرين للحدود الوطنية، يعيشون ويتنقلون عبر الحدود، وتكون لديهم المصادر والتأثير للتحرك بحرية، وتكون لديهم السلطة للعمل معاً على حد المساواة، ويسعون دوماً إلى ابتكار استراتيجيات جديدة للبقاء أغنياء، ويعيشون حياة مجدية معاً، ويسعون دوماً إلى النضال لأجل تحقيق مستقبل أفضل. ويقولان: «هذه هي الرؤية التي نؤمن بأنها واقعية لكل المواطنين، ليس فقط للنخبة القليلة، ويتوجب علينا أن نبتكر أشكالاً جديدة من النضال السياسي، والأحزاب، والمنظمات، والحركات التي تعمل على تحقيق هذا».
نبذة عن المؤلفين
** لورنزو مارسيلي أحد المؤسسين لمنظمة البدائل الأوروبية غير الحكومية العابرة للحدود الوطنية، وكان مع يانيس فاروفاكيس أحد المبادرين للحركة الأوروبية الشاملة (DiEM25). يكتب في العديد من المواقع والصحف المهمة في العالم. كما أنه محرر مؤسس للمجلة المستقلة الفصلية «نيكد بانتش ريفيو».
** نيكولو ميلانيز شاعر وفيلسوف. وقد شارك في تأسيس العديد من المنظمات والمجلات والمبادرات السياسية والثقافية المتعلقة بدول البحر الأبيض المتوسط، ويعمل على تنظيم حملات من أجل رفع صوت المجتمع المدني ليكون أكثر تأثيراً وراديكالية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي.