حياة على الحدود..
تأليف: هسياو-هونج باي
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
اختفت أزمة الهجرة واللاجئين في أوروبا عن نشرات الأخبار مؤخراً، رغم أن تأثيرها على الأجندة السياسية استمر في جميع أنحاء القارة. وعلى الرغم من أن هناك مشاهد مأساوية، كما هو الحال مع الصورة المروعة للطفل السوري آلان كردي المسجّى على شاطئ بودرم التركي، إلا أنه في معظم الأحيان تضيع القصص الفردية للفارين من الحروب وسط الهستيريا الإعلامية الغربية التي تدعو إلى تخفيض أعداد المهاجرين وإغلاق أبواب القلعة – أوروبا. تحاول الصحفية هسياو-هونج باي في عملها هذا نقل حقيقة القصص الإنسانية المؤثرة التي يحاول الكثير من الأوروبيين إبقاءها بعيداً عن الأعين والأذهان.
سافرت هسياو-هونج باي إلى مناطق ودول عديدة بهدف لقاء المهاجرين وطالبي اللجوء الذين كانوا يصلون للتو إلى شواطئ لامبيدوزا أو صقلية، وكيف كان يتم استيعابهم في مخيمات استقبال سيئة. وتتطرق في تفاصيل الكتاب إلى حياة طالبي اللجوء في إيطاليا وألمانيا، حيث واجه البعض منهم مضايقات من المجموعات اليمينية المتطرفة، وعاش آخرون ظروفاً مروعة في المخيمات على ساحل شمال غرب فرنسا.
يقع الكتاب الصادر حديثاً عن «نيو إنترناشيناليست» في 240 صفحة من القطع المتوسط باللغة الإنجليزية. ويحتوي على ستة أقسام هي: بوابة لأوروبا، تجارة استقبال اللجوء في صقلية، السير من تحت الأرض، التوجّه شمالاً؛ جيتوهات أوروبا، غابة باريس.
أزمة اللاجئين
تقول الكاتبة إن كلمات مثل «أزمة اللاجئين» أو «أزمة المهاجرين» من المصطلحات التي تستخدمها وسائل الإعلام الأوروبية السائدة لتخبرنا عن حالة الأشخاص الذين لا يملكون رؤوس الأموال، والفارين من الصراعات، والحروب. هذه المصطلحات المستخدمة تدخل في سياق لعبة الأرقام، وزرع فكرة لدى الرأي العام أن «أوروبا لا يمكن أن تحتمل أكثر من ذلك». في نهاية المطاف، يتم من خلال هذه المصطلحات الحفاظ على مفهوم «نحن» و«هم» وترسيخها.
وتضيف: «عندما قرأت لأول مرة هذه المصطلحات الإعلامية، واستمعت إلى اللغة المستخدمة في التعامل مع وصول اللاجئين والمهاجرين إلى أوروبا، كانت الأسئلة التي أردت طرحها هي: من يعرّفها على أنها «أزمة»؟ لماذا هي «أزمة»؟ ما هي طبيعة «الأزمة»؟».
وترى أنه في العالم غير المتكافئ الذي نعيش فيه، حيث شمال الكرة الأرضية يحدد ويكتب التاريخ نيابة عن الجنوب، يتم نشر معرفتنا للعالم والتحكم فيها من خلال المؤسسات القوية للنخب الحاكمة في الشمال، وفهمنا للأحداث العالمية وغالباً ما يتم تشكيلها وتوجيهها من قبل هذه المؤسسات.
على عكس الرأي السائد الذي ينظر إلى وصول اللاجئين والمهاجرين من ناحية الأمن وإدارة الهجرة، يطرح هذا الكتاب نهجاً بديلاً يضع القراء في قلب الصورة الحقيقية. وتقول الكاتبة: «بصفتي شخصاً لم يولد في بريطانيا، وعاش فقط هنا منذ أن كان عمره 21 عاماً، فهمت دائماً ماذا يعني أن تكون «غريباً»، ومدى صعوبة إسماع صوتك إلى الرأي العام. خاصة أن المؤسسات الإيديولوجية النافذة، مثل وسائل الإعلام، تحرص على عدم إسماع قصة «الغريب» إلا نادراً، وعندما يحدث ذلك، غالباً ما تُعرض القصة كإحصائيات وبيانات مجرّدة من الحالة الإنسانية. وبطريقة ما، من خلال عمل وسائل الإعلام، الواقع المأساوي لعشرات الآلاف من الأرواح التي فقدت في البحر لم يحرك ساكناً».
الموت على أبواب أوروبا
يتم تصوير اللاجئين والمهاجرين، في أحسن الأحوال، كضحايا بحسب ما تقول الكاتبة. وتوضح أنه في الذهنية الجمعية العامة، ليس لديهم وجوه أو أسماء. وسعت في عملها إلى تغيير هذه الصورة من خلال تناول القصة من جانب آخر، من عيون اللاجئين والمهاجرين، وتعمقت في حقيقة الأشخاص الذين فروا من الاضطهاد والنزاع والفقر المدقع، حيث خاطروا بحياتهم لعبور البحر، ثم وجدوا أنفسهم عالقين في نظام غير مصمم لتوفير الحماية لهم، ولكنه غالباً ما يسعى إلى الاستفادة منهم والحفاظ على تهميشهم. تتناول الكاتبة قصة الذين تشكلت حياتهم ومصائرهم على حدود أوروبا، حيث اتبعت رحلتهم أثناء انتقالهم من ملجأ إلى آخر، من الجنوب إلى الشمال، ومن بلد إلى بلد، ووثقت ظروفهم وتطلعاتهم.
بذلت الكاتبة جهداً بحثياً كبيراً في الأرقام والإحصائيات أيضاً، ومما تذكره في الكتاب: «فقد أكثر من خمسة آلاف مهاجر حياتهم عبر البحر المتوسط وبحر إيجة في عام 2016، حيث غرقوا أو خنقوا أو سحقوا أثناء العبور. لقد مات أكثر من 25 ألف مهاجر أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا أو البقاء فيها منذ عام 2000. وفي منتصف عام 2017، شهدنا الآلاف يفقدون حياتهم في البحر أثناء رحلتهم إلى أوروبا».
وتضيف: «بالنسبة لأولئك الذين قاموا بالرحلة عبر البحر وتمكنوا من الوصول إلى أوروبا، بدأت مرحلتهم التالية من البؤس. ترى ذلك البؤس في أنظمة استقبال اللجوء عبر دول الاتحاد الأوروبي في الخطوط الأمامية، والناجمة عن تعهيد المرافق وخصخصتها. ترى ذلك في «نظام النقاط الساخنة» الذي تفرضه المفوضية الأوروبية، والذي يعمل فقط كإجراء يرفض الأكثرية ويحمي أقل عدد منهم.. ترى البؤس عند المهاجرين الذين يواجهون البرد القارس والثلوج دون ملاجئ في جزيرة ليسبوس لأنهم كانوا محاصرين وسط حالة من الغموض، كنتيجة مباشرة للاتفاق بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. ترى مهاجرين ليس لديهم مكان يلجؤون إليه وينامون في الشوارع، وسط أوروبا الغربية «المتحضرة». ومع وجود مؤسسات قوية، كان من الصعب على الدوام تحدي المفهوم السائد للهجرة، وتصحيح رواياتهم عن اللاجئين والمهاجرين، وأصبح الأمر أعقد بشكل متزايد منذ الأزمة المالية. لقد نمت الأحزاب والجماعات اليمينية المتطرفة بشكل مطرد، مستفيدة من الأوقات الاقتصادية السيئة. في العقد الماضي، ساهمت سياسات التقشف التي ينتهجها الاتحاد الأوروبي في استياء متزايد، حيث كان هناك قدر كبير من سوء توجيهه ضد «الأجانب»، وبعبارة أخرى، ضدّ اللاجئين والمهاجرين».
قوانين صارمة
وبحكم وجودها في بريطانيا، تنتقد الكاتبة السياسة البريطانية في مسألة اللجوء قائلة: «فشلت بريطانيا دائما في الوفاء بالتزاماتها الدولية لاستقبال اللاجئين، وتهربت من مسؤولياتها حتى عندما أصبحت أعداد أكبر من اللاجئين تدخل أوروبا في عام 2015. وبعد تعهد ديفيد كاميرون الذي يرثى له، فقد قررت حكومته أخذ 20 ألف لاجئ سوري من مخيمات اللاجئين بحلول عام 2020، ورئيسة الوزراء تيريزا ماي ذهبت أبعد من ذلك، ليس فقط ضد عمليات الإنقاذ في البحر الأبيض المتوسط، التي وصفتها بأنها عامل جذب، ولكن أيضاً «جعلت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لطالبي اللجوء عند وصولهم إلى بريطانيا، وأبقت خدمات الاستقبال في مراكز اللجوء بيد شركات خاصة، وباتت تقدم لطالبي اللجوء دعماً مالياً غير كاف، وعرّضتهم لظروف معيشية مروعة».
وتضيف: «تستمر حكومة حزب المحافظين في رفض المشاركة في استقبال اللاجئين: تم تقديم ثلاثة بالمئة فقط من طلبات اللجوء في أوروبا في بريطانيا. في عام 2016، تلقت بريطانيا فقط حوالي 39 ألف طلب لجوء، مقارنة بحوالي 723 ألف طلب في ألمانيا، وحوالي 124 ألف طلب في إيطاليا، وحوالي 86 ألف طلب في فرنسا. أصبحت السياسات المناهضة للاجئين والمهاجرين التيار الأبرز في جميع أنحاء أوروبا الغربية».
كما تتوقف الكاتبة عند سياقات اللجوء في عدد من الدول من بينها هنغاريا، التي تقول الكاتبة عنها: «في هنغاريا، رئيس الوزراء فيكتور أوربان من فيدس – الاتحاد المدني المجري اليميني من أشد المعجبين بدونالد ترامب. وبالإضافة إلى إغلاق الحدود مع كرواتيا في أكتوبر/تشرين الأول 2015، وضع المزيد من الضوابط على الشرطة بين البلدين، واقترح احتجاز اللاجئين في معسكرات حدودية حيث يتم تقييد حرية تنقلهم بالكامل».
وتتحدث عن الدنمارك أيضاً قائلة: «في عام 2016، أصدرت الدنمارك قانوناً صارماً يسمح لسلطات الشرطة الدنماركية بالبحث والاستيلاء على الأشياء الثمينة لدى طالبي اللجوء (تقدر قيمتها بأكثر من 10000 كرونة، أو 1600 دولار)، وذلك لتغطية تكاليف السكن والطعام. والأسوأ من ذلك هو أن القانون الدنماركي يضمن أيضاً أن على اللاجئ الانتظار ثلاث سنوات قبل أن يتمكن من تقديم طلب لمّ شمل لعائلته للقدوم إلى الدنمارك».
لطالما كان لدى الدنمارك – بحسب الكاتبة – مستوى منخفض من طلبات اللجوء يتراوح بين ثلاثة وخمسة آلاف طلب سنوياً قبل عام 2014. وحتى عندما فرّ عشرات الآلاف من سوريا وحاولوا الدخول إلى أوروبا، لم تستقبل الدنمارك سوى 15 ألف طلب لجوء في عام 2014، ولم يُمنح سوى 6 آلاف شخص منهم تصريح الإقامة. في عام 2015، عندما كانت ألمانيا تستقبل حوالي 800 ألف طالب لجوء، كان لدى الدنمارك فقط 18.500 طلب، ولم يتم منح سوى 10 آلاف منهم حق الإقامة.
اختبار ضمير أوروبا
في بلد لم يتأثر مشهده الاقتصادي بوجود اللاجئين والمهاجرين، لا شك أن الخوف من «الغزو» هو نتيجة للتلاعب السياسي كما ترى المؤلفة. وتستشهد بما قاله المؤلف الدنماركي مارتن بيترسن الذي كتب بشكل مكثف عن الهجرة في أوروبا، والذي يشعر بالفزع والحزن لأن الأغلبية في البرلمان الدنماركي صوتت على هذه القوانين. بحث بيترسن في رحلة اللاجئين وظروفهم في لامبيدوزا في بداية الألفية، واستوحى كتاباته من الصحفي الإيطالي فابريزيو جاتي الذي قام بأعمال سرية من أجل الكشف عن مصير اللاجئين البائسين في أوروبا. شهد بيترسن نفسه الظروف المعيشية غير الإنسانية والمعاملة القاسية للاجئين والمهاجرين – مثل الضرب واستخدام اللغة العنصرية – في مراكز الاستقبال الإيطالية، والذي أعاد تسمية «حديقة الحاويات» في روايته «خروج سوجارتاون».
تؤيد الكاتبة ما ذهب إليه بيترسن في القول أن وصول اللاجئين هو اختبار لضمير أوروبا ونظامها الأخلاقي. ومما تذكره من كلام بيترسن: «قبل بضعة أعوام، كان عدد قليل جداً من الناس في الدنمارك يعرفون أو كانوا مهتمين بما يحدث في لامبيدوزا ومالطا واليونان وإيطاليا وإسبانيا. لكن منذ سبتمبر/أيلول 2015 عندما شوهد اللاجئون السوريون وتم تصويرهم وهم يسيرون شمالاً على طول الطرق السريعة في جنوب جزيرة جوتلاند السويدية، أعتقد أن أعين الكثير من الناس تفتحت. وكانت ردود الفعل كثيرة. من الرجل الذي بصق على اللاجئين من جسر فوق الطريق السريع، إلى الناس الذين توجهوا نحو الحدود الألمانية في سياراتهم وأوصلوا اللاجئين إلى كوبنهاجن، حتى يتمكنوا من الوصول إلى السويد بشكل أسرع. بعض الدنماركيين الذين ساعدوا السوريين حوكموا، وربما عوقبوا بتهمة الاتجار بالبشر، رغم أنهم في هذه الحالة كانوا ينقلون اللاجئين السوريين، بدون أي أجر، من الحدود الألمانية إلى العبّارات أو الجسر إلى السويد.
بيترسن يشعر بالخزي من السياسات الدنماركية بحق طالبي اللجوء. حتى أن حزب يمين الوسط الحاكم، فينستري، المدعوم من قبل حزب الشعب الدنماركي المناهض للمهاجرين كان يريد إغلاق الحدود، قال علناً إن هذه القوانين يتم إصدارها بشكل أساسي لإبقاء الناس بعيداً وإخافتهم من طلب اللجوء في الدنمارك. ولسوء الحظ، 20٪ من الدنماركيين يصوتون لحزب الشعب الدنماركي، ويحبّون هذا القانون. حتى البعض يريد قوانين أكثر صرامة».
تجد الكاتبة أن هناك قلة من الكتّاب والصحفيين يواجهون عقبات صعبة، خاصة عند الإبلاغ عن الهجرة وتقديم الحقائق بصدق. ويكون التحدي الأول دائماً الابتعاد عن حدود وسائل الإعلام السائدة والخطاب السياسي المهيمن، وذلك من خلال طرح بعض الأسئلة مثل: من يحدد «الأزمة»، لماذا هي «أزمة»، وما هي طبيعة «الأزمة»؟
يكشف هذا العمل البحثي عن العنف الهيكلي الذي وضعته النخبة في الشمال، ونظرتهم إلى اللاجئين والمهاجرين المحاصرين في نظام الهجرة المتبع في الاتحاد الأوروبي، وتصنيفهم على أنهم مجرد أرقام في الميزانيات العمومية لسلسلة استقبال اللجوء، حيث يتم التعامل مع احتياجاتهم وتطلعاتهم على أنها غير ذات صلة.
ونختم بما تقوله الكاتبة: «إن الأزمة الحقيقية التي نواجهها هي أزمة عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على الاستجابة لأشخاص من الجنوب يفرون من ظروف بائسة بحثاً عن ملجأ وإقامة. الأزمة الحقيقية هي فشل الاتحاد الأوروبي الهائل في إحباط هؤلاء».
نبذة عن الكاتبة
هسياو-هونج باي من مواليد 1968 تايبيه،( الصين الوطنية). نشرت وتنشر في العديد من الصحف والمواقع العالمية باللغة الإنجليزية والصينية. ومؤلفة للعديد من الأعمال منها كتاب همسات الصينيين: قصة جيش العمال المخفي لبريطانيا(2008)، وصل للقائمة القصيرة في جائزة أورويل للكتاب لعام 2009، رمال متفرقة: قصة المهاجرين الريفين في الصين(2012)، وفائزة بجائزة بريد آند روزيس في 2013، والمخفي: تجارة العاملات لأجل الجنس في بريطانيا2013، شعب أبيض غاضب: وجهاً لوجه مع اليميني البريطاني المتطرف (2016). تعيش باي في المملكة المتحدة منذ عام 1991، وتحمل شهادات الماجستير من جامعة ويلز، وجامعة دورهام وجامعة وستمنستر. وهي حاصلة على درجة البكالوريوس من جامعة فو جين الكاثوليكية في نيو تايبيه.