آلية الانتخابات في ظل الديمقراطية
تأليف: آدم بيرزورسكي
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
مع انهيار الأحزاب التقليدية في جميع أنحاء العالم، ومع توقّع العديد من الخبراء حدوث «أزمة الديمقراطية»، تبقى قيمة الانتخابات كطريقة للاختيار من جانب من وكيف، يتم حكمنا موضع تساؤل. يحاول المنظّر الديمقراطي المعروف عالمياً آدم بيرزورسكي أن يسلط الضوء على عملية الانتخابات السياسية في ظل الديمقراطيات العالمية، ويطرح العديد من الأسئلة في هذا الكتاب، منها: ما فضائل ونقاط الضعف في الانتخابات؟ هل هناك قيود على ما يمكن تحقيقه واقعياً؟
في هذا الكتاب الصادر حديثاً عن دار «بولايتي» في 210 صفحات من القطع المتوسط يقدّم المنظّر الديمقراطي آدم بيرزورسكي، تحليلاً شاملاً للانتخابات والطرق التي تؤثر بها في حياتنا. ويشير إلى أن الانتخابات ناقصة بطبيعتها، لكنها تبقى أقل الطرق سوءاً في اختيار حكامنا. وفقاً لبروزورسكي، فإن أكبر قيمة للانتخابات – وهي بحد ذاتها موضع اعتزاز – هي أنها تعالج أي صراعات قد تنشأ في المجتمع بطريقة تحافظ على الحرية النسبية والسلام. ولكن تبقى المعضلة الصعبة وغير الواضحة، وهي إذا ما كان المرشحون سينجحون في القيام بتحقيق ذلك في ظل المناخ السياسي العالمي المضطرب في الوقت الراهن.
بعد المقدمة، يأتي الكتاب في قسمين أساسيين هما: أولاً: «كيف تعمل الانتخابات»؟ ويأتي في خمسة فصول هي: فكرة انتخاب الحكومات، حماية الممتلكات، التنافس على المنفعة اللاحزبية، خاتمة: ما المترسخ في الانتخابات؟ ثانياً: «ما الانتخابات التي يمكن ولا يمكن تحقيقها»؟ ويتألف القسم من سبعة فصول هي: مقدمة إلى القسم الثاني، العقلانية، التمثيل، والمحاسبة، وفرض التحكم على الحكومات، الأداء الاقتصادي، المساواة الاجتماعية والاقتصادية، السلام المدني، استنتاجات.
أزمة الديمقراطية
يقول الكاتب آدم بيرزورسكي إننا «نختار حكوماتنا عبر الانتخابات. تقترح الأحزاب السياسات وتقدّم المرشحين. ندلي بأصواتنا، ثم يتم الإعلان عن فوز أحدهم وفقاً لقواعد متأسسة بشكل مسبق. ينتقل الفائز إلى مكتب الحكومة والخاسر يعود إلى بيته. لبضع سنوات يحكمنا هؤلاء، وثم تكون هناك فرصة لنقرر إذا ما كنا سنعيد هؤلاء إلى مكاتبهم أو نرمي بالأشرار إلى الخارج. كل هذا أمر روتيني نتعامل معه على البديهة.
وفي توضيح لعلاقتنا بعملية الانتخاب يقول بيرزورسكي:»على الرغم من أن عملية الانتخابات معروفة ومألوفة، إلا أنها تبقى ظاهرة معقدة. ففي انتخاب نموذجي لواحد من اثنين، ينتهي الأمر بخسارة أحدهما. في الأنظمة الرئاسية، قليلاً ما يتلقى الفائز أكثر من 50 في المئة من الأصوات، والأنظمة البرلمانية متعددة الأحزاب، نادراً ما تكون الحصة الأكبر أعلى من 40 %. علاوة على ذلك، تجد العديد من الناس الذين صوتوا لأجل الفائزين يشعرون بالتخوف من أدائهم في المنصب. بالتالي يبقى العديد منا خائبي الأمل، سواء مع نتيجة أو أداء الفائز. ومع ذلك، تأتي الانتخابات بعد الانتخابات، وكثير منا يأمل أن يفوز مرشحنا المفضّل في المرة المقبلة وألا يخيّب أملنا«.
ويضيف في السياق ذاته:»الأمل والخيبة. الخيبة والأمل: هناك شيء ما غريب. التوضيح الوحيد الذي يمكنني التفكير فيه هو الرياضة: فريقي المفضل في كرة القدم، هو أرسنال، لم يفز بأي بطولة منذ سنوات، لكن مع كل موسم جديد أتأمّل أن يفوز بالبطولة. بعد كل هذا، في عوالم أخرى من الحياة، نضبط توقعاتنا وفق الخبرات الماضية. لكن ليس في الانتخابات. فالأغنية المغرية للانتخابات لا يمكن مقاومتها. هل الأمر لا عقلاني«؟
ويوضح الكاتب أن الأسئلة المتعلقة بقيمة الانتخابات كآلية بموجبها نختار بشكل جماعي من يحكمنا وكيف سيقومون بذلك قد أصبح أمراً ملحاً على نحو خاص في السنوات القليلة الأخيرة، قائلاً:»في العديد من الديمقراطيات، تشعر أعداد كبيرة من الناس أن الانتخابات تديم فقط حكم المؤسسة الحاكمة، أو حكم النخب أو حتى حكم الحزب، بينما على الطرف الآخر يشعر العديد بصعود الأحزاب الشعبوية، القمعية، وغالباً ما تكون عنصرية ولديها رهاب من الأجانب. توجد مثل هذه المواقف بشكل مكثف على الجانبين، وهذا بدوره يولّد انقسامات عميقة، وحالات استقطاب، ويفسّر الأمر من قبل العديد من المثقفين بأنه «أزمة الديمقراطية» أو على الأقل علامة على عدم الرضا عن مؤسسة الانتخابات نفسها.
إعادة القرار للشعب
يتوقف الكاتب عند نتائج استطلاع يظهر أن الناس بشكل عام، والشباب منهم بشكل خاص، يعتبرون مسألة الديمقراطية أقل ضرورة عما كان عليه في الماضي، فقد كان حماسهم أكثر فيما مضى، لكن لم يعد الأمر كما قبل، حيث كان جل طموحهم هو أن يعيشوا في بلد يحكم بشكل ديمقراطي. بحسب الاستطلاع كلهم يدعمون ما يتردد من أن الديمقراطية تعيش في أزمة.
ويعلق الكاتب على هذه الفكرة قائلاً: ومع ذلك، لا شيء «غير ديمقراطي» حول نصر دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية أو صعود الأحزاب المعادية للمؤسسات الحاكمة في أوروبا. حتى أنه يكون أكثر تناقضاً عند قول الشيء نفسه حول نتائج الاستفتاءات المتنوعة، سواء فيما يتعلق بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أو بشأن الإصلاح الدستوري في إيطاليا (لكن بشكل ضمني جميع أوروبا)؛ فالاستفتاءات يفترض أن تكون أداة «الديمقراطية المباشرة» التي تعتبر من قبل البعض متفوقة على الديمقراطية التمثيلية. علاوة على ذلك، ففي الوقت الذي يطلق فيه علامة «فاشي» من دون مبالاة لتشويه سمعة هذه الأحزاب السياسية، نجد أن هذه الأحزاب، على خلاف الأحزاب في فترة الثلاثينات، لا تدافع عن استبدال الانتخابات بطريقة أخرى لاختيار الحكّام. ربّما يرونها بشعة، لكن هذه الأحزاب تقوم بحملاتها تحت شعار إعادة السلطة المغتصبة من قبل النخب إلى «الناس»، إذ يرون في هذا تقوية للديمقراطية».
ويضيف: «في الكلمات الدعائية لترامب كان يقول: حركتنا هي لأجل استبدال المؤسسة السياسية الفاسدة والفاشلة بحكومة جديدة تتحكمون بها أنتم، أيها الشعب الأمريكي». واليمينية الفرنسية مارين لوبان وعدت «بالدعوة إلى إجراء استفتاء على أوروبا، حيث تقررون فيه أنتم، أيها الشعب». ببساطة إنهم ليسوا ضد الديمقراطية. كما أنهم من خلال عملهم، ليس هناك من هو ضد الديمقراطية بشأن أناس يريدون أن تكون لديهم حكومة«قوية أو على قدر من الكفاءة ومؤثرة»، بحسب الاستجابات إلى أسئلة الاستطلاعات التي زادت بشكل متتالٍ خلال السنوات الأخيرة، وفيها يفسر بعض المعلقين ذلك بأن ما يحدث عرض من أعراض تراجع الدعم للديمقراطية.
التوجّه نحو الإصلاحات
وفي سياق توضيحه أكثر يجد الكاتب أن عدم الرضا عن نتائج الانتخابات لا يمكن اعتبارها بنفس سوية حالات عدم الرضا عن الانتخابات كآلية اتخاذ القرار الجمعي، ويقول:»صحيح أن إيجاد نفسك على الجانب الخاسر لا يمكن القبول به. لكن تظهر الاستطلاعات حقاً أن نسبة الرضا عن الديمقراطية أعلى بين من صوتوا لأجل الفائزين. تظهر في الانتخابات العديد من المنصات التي يتحدث فيها الفائزون أكثر من الخاسرين، لكن على العموم، يقدّر الناس ويصوتون لحزب يمثّلهم ويعبّر عن آرائهم، حتى وإن انتهى بهم الأمر على الجانب الخاسر. (بناء على دراسة هاردينغ في 2011 التي غطت 40 استطلاعاً من 38 دولة بين 2001 و2006).
عندما ينهض الناس للاحتجاج ضد «المؤسسة الحاكمة»، غالباً ما يقصدون أنهم إما أن الحزب لا يمثّل آراءهم أو أن الحكومات تتغير من دون تحقيق أي تأثير في حياتهم، مشيرين إلى أن الانتخابات لا تولّد التغيير. لكننا، والغالبية العظمى كذلك، نستطيع تقدير آلية الانتخابات حتى وإن كانت نتائجها لا تروق لنا».
يعاين الكاتب العديد من الأسئلة، ويحاول في إجاباته التعامل مع الانتخابات كما هي بشكل واقعي، مع كل العيوب والأخطاء الموجودة فيها، ودراسة فرض تأثيراتها في الأشكال المتنوعة لوجودنا الجمعي، ومن هذه الأسئلة:«لماذا ينبغي ولماذا يتوجّب علينا أن نقدّر الانتخابات كطريقة لأجل اختيار من يحكمنا والطريقة التي حكمنا بها؟ ما فضائلهم، نقاط ضعفهم، وحدودهم»؟
يشير الكاتب إلى أن بعض الانتقادات الشعبية للانتخابات، بشكل خاص من هؤلاء الذين لا يقدمون أي خيار ويعتبرون أن المشاركة الانتخابية الفردية غير فعالة، يجدهم مخطئين، بناء على فهمهم غير الصحيح للانتخابات كآلية بموجبها نقوم باتخاذ قرار جماعي.
ويفترض أنه في المجتمعات التي يكون فيها للناس آراء ومصالح متضاربة، يكون البحث عن العقلانية أو «العدالة» أمراً ميؤوساً منه، لكن تلك الانتخابات تقدّم توجيهات وتعليمات للحكومة لتقليل حجم عدم الرضا مع كيفية حكمنا. ويقول:«سواء اتبعت الحكومات هذه التعاليم أو التوجيهات وسواء عملت الانتخابات على إزالة الحكومات التي لا تتبعها حينها تكون أكثر شكوكية؛ الحكومات التي تكون سيئة جداً تكون خاضعة لقوانين انتخابية، لكن هامشها للتهرب من المسؤولية كبير جداً».
ويعبّر الكاتب عن خشيته تجاه عملية الانتخابات قائلاً: «أخشى أن التوقع الدائم والمستمر للانتخابات بفرض تأثيرها في خفض التفاوت الاقتصادي يتسم بالهشاشة في المجتمعات التي تكون فيها الملكية الإنتاجية في يد قلة من الناس، وتوزع فيها الأسواق بشكل غير متساوٍ الدخل (الرأسمالية)».
ويضيف:«قيمة الانتخابات الكبرى هو أنها على الأقل تحت بعض الشروط تسمح لنا بالتحرك في حرية نسبية وسلام مدني مهما كانت الصراعات الموجودة في المجتمع، فهي تمنع العنف. هذه وجهة نظر تدافع عن الاعتدال السياسي (تشرشلية)، والمقتنعون بها يقرّون أن الانتخابات ليست جميلة جداً، ولم تكن أبداً «عادلة» جداً، وهي عاجزة عن مواجهة بعض الحواجز التي تظهر أمامهم في مجتمعات محددة».
في التعامل مع آلية الانتخابات يرى الكاتب أنه لا طريقة سياسية لاختيار حكامنا، ويقول: لا يمكن لأي نظام سياسي أن يجعل المشاركة السياسية للجميع فعّالة بشكل فردي. لا يمكن لنظام سياسي أن يكون وكيلاً مثالياً للمواطنين. لا يمكن لنظام سياسي أن ينتج ويحافظ على درجة المساواة الاقتصادية في المجتمعات الحديثة التي يكون فيها العديد من الناس مهووسين بالهيمنة. السياسة بأي شكل أو نمط، لديها حدود في صياغة وتحويل المجتمعات والتأثير فيها. هذه حقيقة حياتية معاشة. أعتقد أنه من المهم معرفة هذه الحدود، لكي لا ننتقد الانتخابات لعدم تحقيقها ما لا يمكن لأي ترتيبات سياسية أن تحققها. ولكن هذا لا يعني الرضا والتسليم بالوضع القائم مع كل مشكلاته. إدراك الحدود يساعد في توجيه جهودنا نحو هذه الحدود، ويوضح الاتجاهات لأجل الإصلاحات المناسبة.
في خاتمة هذا العمل لا يبدو الكاتب متفائلاً أمام ما يحدث من حالات استقطاب سياسي على مستوى عال في العالم، ولكن يعبر عن رغبته في عدم التوجه نحو انقسامات فعلية تؤدي إلى صراعات في مجتمعات بقيت لفترة من دون حروب.
نبذة عن الكاتب
ولد أستاذ العلوم السياسية الكاتب البولندي- الأمريكي آدم بيرزورسكي 1940 في وارسو، بولندا. تخرّج في جامعة وارسو في عام 1961. وبعد ذلك بوقت قصير، انتقل إلى الولايات المتحدة، حيث حصل على درجة الدكتوراه في جامعة نورث ويسترن في عام 1966. يعدّ اليوم من بين أهم المنظّرين والمحللين المهمين للمجتمعات الديمقراطية، ونظرية الديمقراطية والاقتصاد السياسي.
يعمل حالياً أستاذاً في قسم السياسة في قسم ويلف فاميلي للسياسة في جامعة نيويورك. حاضر في العديد من الجامعات منها: جامعة شيكاغو، حيث حصل على لقب مارتن رايرسون كأستاذ الخدمة المتميز، كما حاضر في جامعات خلال زيارات إلى الهند وتشيلي وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإسبانيا وسويسرا. منذ عام 1991، كان عضواً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والعلوم، وشارك عام 2001 في جائزة وودرو ويلسون لكتاب الديمقراطية والتنمية. في 2010، حصل على جائزة يوهان سكايت في العلوم السياسية «لرفع المعايير العلمية المتعلقة بتحليل العلاقات بين الديمقراطية والرأسمالية والتنمية الاقتصادية». له العديد من الكتب البارزة منها: الرأسمالية والديمقراطية الاجتماعية (1985)؛ «الديمقراطية والسوق: الإصلاحات السياسية والاقتصادية في أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية» (1991)؛ «الدول والأسواق: الكتاب الأول في الاقتصاد السياسي» (2003)؛ «الديمقراطية وسيادة القانون» (2003).