أرض جوفاء
تأليف: إيال وايزمان
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
من أنفاق غزة إلى المجال الجوي ذي الطابع العسكري في الأراضي الفلسطينية المحتلة، يزيح إيال وايزمان النقاب عن آليات السيطرة لدى «إسرائيل» وكيفية تحويلها منازل الفلسطينيين إلى منطقة حرب تخضع للمراقبة المستمرة. يقدم في عمله قراءة مهمة تساعد على فهم كيفية استخدام الهندسة المعمارية والبنية التحتية كأسلحة فتاكة في تشكيل الكيان «الإسرائيلي»، ومحاربة واستغلال الشعب الفلسطيني بأبشع الطرق الإنسانية الممكنة.
يحلل إيال وايزمان في هذا العمل كيفية استخدام الهندسة المعمارية في «إسرائيل» كأداة سياسية وثقافية متطورة بشكل هائل. ويكشف عن سلسلة من الطبقات والأقاليم، يتم التلاعب بكل منها من قبل السلطات «الإسرائيلية». ويستكشف مدى سهولة عبور تلك الحدود من جانب المستوطنين، ولكنها تكون عصية على الفلسطينيين.
ينظر الكاتب في كيفية إنشاء أرخبيل داخلي من خلال تطويق المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية. ويعاين استخدام علم الآثار لتبرير الاستيطان اليهودي في بعض المناطق، في حين أن أجزاء من إرث الإسلام تدهس بالآليات «الإسرائيلية» وتترك تحت الأنقاض. ويشير إلى كيفية تنازل «إسرائيل» للسلطات الفلسطينية عن شريحة أفقية من السطح، إلا أنها أبقت الطبقات الجوفية للتاريخ ومستودعات المياه الجوفية في أيدي «الإسرائيليين»، كما هي الحال في المجال الجوي أيضاً. ويوضح كيف أن الطرق اليهودية تشيّد عبر الممتلكات الفلسطينية، وتتقاطع الأنفاق والجسور مع المناظر الطبيعية في شكل من الفصل العنصري المكاني، بحيث يمكن للمستوطنين تجنب الاتصال بالفلسطينيين.
يأتي الكتاب في تسعة فصول ضمن 352 صفحة من القطع المتوسط صادر عن «دار فيرسو» البريطانية، ويعاين كل فصل من الفصول تركيباً أو مجموعة من التراكيب ذات الصلة والطريقة التي تفرض بها هيمنة «إسرائيل» على الفلسطينيين من خلال السيطرة على الحيز المكاني. تتكون الفصول من مقالات؛ معظمها يحتوي على تفاصيل لا يعرفها الكثير خارج «إسرائيل» بحسب ما يقول الكاتب، إلا أن الكثير منها معروف للشعب العربي.
تقنيات التخريب
قام الجيش «الإسرائيلي»، مسترشداً بالتخريب، بتطوير تقنيات جديدة، وتجنب الشوارع الضيقة المملوءة بالقناصة، وبات بدلاً من ذلك يشق الاحتلال طريقه عبر جدران المساكن. إذ ينظر إلى المنازل على أنها طرق محتملة، وأن المنازل مسرح شرعي للحرب. وتبنى القادة «الإسرائيليون» أيضاً نظرية ما بعد خاصية البعد الواحد ونظرية الفوضى، حيث «يحتشد الجنود» في وحدات صغيرة متعددة عبر مناطق المعارك كما يعلق الكاتب.
ويعاين كيف أن «الأشكال المختلفة للحكم الإسرائيلي» على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967 أنشأت نفسها في المكان. ولتحقيق هذا الغرض، يستخدم مصطلح الهندسة المعمارية بطريقة يصف فيها بالتفصيل التخطيط والبناء والخصائص المادية والسياسية للعديد من الهياكل المبنية للاحتلال وأدوار المهندسين المعماريين «الإسرائيليين» الذين صمموها. وتشمل الهياكل تحليل الحي اليهودي في البلدة القديمة في القدس، والمستوطنات، وجدار الفصل العنصري، ونقاط التفتيش في قلنديا، المعبر الحدودي عند جسر الملك حسين (أللنبي)، ومعبر رفح.
يصف الكاتب جدار الفصل العنصري بأنه من أكثر انتهاكات «إسرائيل» للقانون الدولي على مدى أكثر من أربعين عاماً من الاحتلال، كما أن محكمة العدل الدولية أقرت أيضاً أنه غير قانوني. ومع ذلك، احتج المعماريون «الإسرائيليون» على استبعادهم من المشاركة في عملية تصميمه، وينظر وايزمان هنا إلى الهندسة المعمارية «كطريقة مفاهيمية لفهم القضايا السياسية كحقائق مبنية».
ويركز الكاتب على اغتيالات «إسرائيل» المدروسة في قطاع غزة ابتداء من عام 2003، إذ يجدها حاسمة، وإن كانت محبطة ويصف وايزمان الوضع في القطاع ب «الاحتلال المحمول جواً»، إذ يجد أن الاحتلال يتوسع على طول محور عمودي. ويؤكد أهمية هذه القضية للتطورات الحالية التي تتخطى «إسرائيل»/فلسطين، ويتتبع استخدام القصف الجوي «للسكان الأصليين» المتمردين على فترة حكم ونستون تشرشل كوزير الحرب والجو البريطاني في عشرينيات القرن العشرين، فقد روج تشرشل بحماسة «للاستعمار القسري الجوي» في أرض الصومال والعراق. ويجد الكاتب أن فكرة استخدام الهندسة المعمارية لفهم القضايا السياسية في هذا السياق على أنها حقائق مبنية تشكّل أمراً مربكاً إلى حد ما في هذه الحالة..
الفصل العنصري
في بداية الكتاب يشير المؤلف إلى حوار نقدي لجنرال «إسرائيلي» سابق حول سياسة الجمود السياسي بين «إسرائيل» والفلسطينيين، وهذا الضابط كان حتى وقت قريب قائداً عسكرياً بارزاً في الضفة الغربية، فقد كان يجد بسخرية مبكية أن الجيش «الإسرائيلي» أصبح «بطل العالم في الاحتلال»، إذ استطاع أن يقلب تحكّمه بملايين الفلسطينيين إلى «شكل فني»؛ كما لو أن هذا النظام القاتل والمخزي على مدى جيلين يمارس نوعاً من الرياضة أو التحدي الإداري.
جاءت مقدمة الكتاب في نسخته الجديدة بعد ما يقارب خمسين سنة من حرب 1967 و(عشر سنوات على إصدار النسخة الأولى من العمل) ليحدد طريقة النظام «الإسرائيلي» في التحكم بالفلسطينيين، والتي تطورت إلى أشكال متقطعة وغير منتظمة خلال العقود الأربعة من الاحتلال، إلا أنه خلال العقد الخامس أصبح متصلباً بشكل وحشي واستثنائي من الأبارتهايد الممارس على الأرض الفلسطينية بحسب تعبير المؤلف.
ويقول في مقدمته الحديثة: «في الحقيقة، في الذكرى الخمسين، يبدو أن الاحتلال «الإسرائيلي» في أفضل شكل له. فمع أن المستوطنات في غزة أزيلت، إلا أنها تزدهر في القدس الشرقية والضفة الغربية، وشهدت أعداد المستوطنين زيادة بنسبة 15 ألف مستوطن سنوياً. وتبين أن فرض الهيمنة على أكثر من أربعة ملايين فلسطيني لا يشكل عبئاً اقتصادياً، بل يأتي بالفائدة والربح على الجانب «الإسرائيلي». فالسكان تحت الاحتلال أسرى سوق البضائع «الإسرائيلية» المصنعة. وأصبحت الصناعات الخاصة، بما فيها الشركات الدولية العاملة في المستوطنات اليهودية، تنتعش بفضل الإعفاءات الضريبية، والإجارات المنخفضة، والإعانات الحكومية، وبسبب القوى العاملة الفلسطينية الرخيصة والمرنة التي لا تملك أي حقوق مدنية أو مهنية».
كما يوضح الكاتب أن الصادرات «الإسرائيلية» توسعت على المستوى الدولي، وبات من بين صادراتها اليوم أسلوب التقسيم والفصل والمراقبة والهيمنة التي تمارسها على الفلسطينيين، ومن هذه الدول المستوردة لهذه الأساليب المجربة: الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية التي بدأت تتبع سياسات قائمة على الخوف من الأجانب والأقليات واللاجئين، خاصة المسلمين منهم.
ويشير إلى أنه لا يوجد ضمن النظام السياسي «الإسرائيلي» في الوقت الراهن أي معارضة جدية للمشروع الاستيطاني. وليس هناك أي أهمية تذكر للدبلوماسية الدولية، وليس هناك من «عملية سلام» تهدّد توسع المستوطنات. ويمتلك ممثلو الحركة الاستيطانية النفوذ في كافة المناصب الحكومية الكبرى، ويديرون ليس فقط الاحتلال، بل أيضاً الأعمال التجارية المربحة لـ«إسرائيل».
أما بالنسبة للمعارضة داخل «إسرائيل»، يقول المؤلف: «فهي تواجه بغضب ساحق وذعر كبير، ويتم وصف الناشطين بالخونة، ويتم التجسس عليهم، واعتقالهم، وتهديدهم. الآن، يشير المسؤولون الحكوميون، وحتى رئيس الوزراء «الإسرائيلي» نفسه، بشكل صريح إلى منظمات حقوق الإنسان ب«التهديد الاستراتيجي الثالث»، ويتعاملون معهم كوكلاء وجواسيس أجانب، حتى أن البرلمان «الإسرائيلي» قام بسن تشريعات للحد من نشاطها. وأصبحت مجموعات المجتمع المدني التي تطالب بمقاطعة «إسرائيل» ثقافياً، وعدم الاستثمار في الاقتصاد «الإسرائيلي»- واحدة من الأساليب السلمية لتحدي الهيمنة «الإسرائيلية»- محظورة محلياً (ونشاطها محدود جداً في بعض البلدان مثل بريطانيا، فرنسا، إيرلندا، ألمانيا، والولايات المتحدة) والناشطون الأجانب الذين يدعمون هذه المجموعات لم يعد يسمح لهم بالبقاء في «إسرائيل».
تدمير الحياة الفلسطينية
يقول الكاتب:» الهيمنة الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة دائماً ما تغيرت بين اختيار الغياب والحضور المادي، فالتعامل السابق والأخير ل «إسرائيل» على صعيد الأراضي إلى جانب استراتيجيتها الديموغرافية، كانت تهدف إلى الحصول على الأراضي من دون السكان الذي يعيشون عليها. بالتالي كان يتم فرض نظام مجزأ من الإقصاء المكاني الذي قسّم على كل نطاق إلى قسمين».
ويضيف «إن منطق «الفصل» (أو لنستخدم الكلمة المألوفة في عموم أفريقيا «الأبارتهايد») بين «الإسرائيليين» والفلسطينيين ضمن الأراضي المحتلة قد امتد على نطاق وطني أوسع إلى نوع من «التقسيم». في أوقات، كانت سياسة الفصل/التقسيم تتستر بصيغة لأجل التسوية السلمية، وفي أوقات أخرى كانت بمثابة تنسيق بيروقراطي على صعيد الأراضي للحوكمة، وفي الآونة الأخيرة كوسيلة متبعة من جانب واحد لفرض الهيمنة، والقمع، والتقسيم على الشعب الفلسطيني وأرضه».
ويؤكد أن: «اتفاقيات أوسلو في التسعينات تركت الجيش «الإسرائيلي» متحكماً بفجوات أرخبيل مكون من حوالي مئتي رقعة حكم ذاتي مقيدة وهي مفصولة عن بعضها في الضفة الغربية وغزة. حكم الجيش المنطقة من خلال تحوير تدفقات من الأنماط المختلفة بين هذه الجيوب (المال، القمامة، الماء، حركة المرور).».
ويشير أيضاً إلى أنه «خلال الانتفاضة الثانية، أصبحت خطوط التقسيم الناشئة عن اتفاقيات أوسلو أكثر صلابة في آليات التحكم. كما أن نقاط التفتيش وجدار الفصل العنصري، المتسللتين بسلاسة إلى هذه الرقعة الجغرافية، ليست فقط وسائل وحشية للفصل، بل حساسات نشطة ضمن شبكة المراقبة «الإسرائيلية»، تقوم بتسجيل وجوه كل الفلسطينيين الذين يعبرونها. وعملية إنهاء الاستعمار الجزئي، والتي تجسدت مؤخراً في إخلاء السطح الأرضي لغزة وبناء الجدار في الضفة الغربية هو مؤشر على محاولة إحلال نظام هيمنة محل نظام آخر يشبهه. إذا كان نظام الهيمنة السابق يعتمد على الوجود «الإسرائيلي» على الأرض ضمن المناطق الفلسطينية وفرض الحكم المباشر على السكان المحتلين، فإن الثاني يسعى إلى التحكم بالفلسطينيين من وراء أغطية أماكنهم المسوّرة، من خلال فتح وإغلاق المناطق المسيّجة المختلفة بشكل انتقائي، ومن خلال الاعتماد على قدرة الضربة على استخدام القوة الجوية من فوق المناطق الفلسطينية».
ويرى أنه في هذا «الترتيب» على الأراضي، انقلب مبدأ «الفصل» تسعين درجة مئوية أيضاً، مع فصل «الإسرائيليين» والفلسطينيين بشكل عمودي، إذ حدث احتلال طبقات مكانية مختلفة. هذه العملية من «الانفصال» الذي رأى التخفيض في الوجود «الإسرائيلي» المباشر على الأرض على الأراضي الفلسطينية، ومع درجة من المسؤولية بالنسبة للسكان الفلسطينيين، نشأ عن الأمر ازدياد راديكالي في مستوى العنف، ومنذ فترة الانسحاب من غزة، أو ما يعرف بخطة الانفصال، شهد القطاع أسوأ أشكال الدمار للحياة الفلسطينية منذ بداية الاحتلال».
نبذة عن الكاتب
– إيال وايزمان (من مواليد 1970، حيفا) مفكرّ ومعماري «إسرائيلي»- بريطاني. يشغل موقع أستاذ الثقافات المكانية والمرئية في جولدسميث، جامعة لندن، ويدير مركز أبحاث الهندسة المعمارية ومشروع الهندسة المعمارية للطب الشرعي الممول من مجلس الأبحاث الأوروبي. كما أنه عضو مؤسس في جمعية دار للتخطيط المعماري والفني في بيت لحم، فلسطين..
بين عامي 2014 و2017 كان باحثاً عالمياً في جامعة برينستون. وهو مؤلف للعديد من الكتب منها: «على الأقل كل الشرور المحتملة: العنف الإنساني من أرندت إلى غزة» (2011)؛ «هندسة الطب الشرعي: ملاحظات من الحقول والمنتديات» (2012)؛ «خط الصراع: الاستعمار كتغير المناخ في صحراء النقب» (2015)؛ هندسة الطب الشرعي لعام 2017: العنف على عتبة الكشف» (2017). يعيش في لندن.