السياسة الأمريكية في عصر اللا يقين
إعداد وتحرير: لانس سيلفا
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
لا يزال اختيار ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية يشكل صدمة على العديد من المستويات، جراء الانتقال من أول رئيس أمريكي من أصل إفريقي إلى شخص جعل «التمييز» حجر الزاوية في حملته. والمثير أن ترامب انتصر على ما بدا أنه «جبهة شعبية» صلبة لمعظم رجال الأعمال الأمريكيين، ووسائل الإعلام، والمؤسسة السياسية، والنشطاء الليبراليين الذين اصطفوا وراء المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. يتناول الكتاب الذي بين يدينا مقالات لعدد من كتاب السياسة الأمريكية والواقع الترامبي الجديد.
يقول الباحث والكاتب اليساري الأمريكي لانس سيلفا في مقالة حديثة في مجلة «إنترناشيونال سوشيالست ريفيو» بمناسبة مرور عام على تسلم دونالد ترامب منصب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية: إنه «بالنسبة لليسار، أنتج هذا الواقع الجديد لحقبة ترامب نوعاً من الجَلبة السياسية التي تؤدي إلى تدفق مستمر من الاعتداءات من ترامب أو إدارته، ما سينتج عنه صدمة ومقاومة. وما أن تظهر معارضة لموقف ترامب من شيء ما، حتى يثير الغضب مجدداً في موقف آخر… من المهم أن نتذكر هذه الدروس. لأن التعبئة الجماهيرية للناس العاديين وحدها يمكن أن تهزم ظاهرة الترامبية».
عصر سياسي مضطرب
سيلفا، مثل كُثرٍ غيره، منشغلٌ بهذه الظاهرة السياسية التي لا تكف عن إثارة الجدل، ومن هذه الجزئية، وانطلاقاً نحو إطار نظري أوسع، يأتي كتاب «السياسة الأمريكية في عصر اللا يقين: مقالات عن واقع جديد» الصادر مطلع العام الجاري عن دار نشر «هاي ماركت». يضم الكتاب الذي حرّره لانس سيلفا عدداً من المقالات لمجموعة من الكاتبات والكتاب الذين ينتمون لتيار مناهض للشعبوية التي بشّر بها ترامب خلال خوضه منافسات الترشح للرئاسة الأمريكية في 2016. كما أنهم ينتمون لفئات اجتماعية تأثرت بسياسة ترامب وعودة مقولات تفوق الرجل الأبيض. ليشكّل هذا الكتاب مادة غنية لفهم المضامين التي تحملها سياسة ترامب تجاه الأقليات والمهاجرين والعلاقات الخارجية، سيما وأن سنة ترامب الأولى في البيت الأبيض حفلت بالكثير من الجدالات المستمرة حول «ما بعد الحقيقة» و«الأخبار الكاذبة» و«رهاب الأجانب»، ناهيك عن «الإسلاموفوبيا» التي وصفتها صحيفة «الإندبندنت» البريطانية بأنها وصلت لمستويات أعلى مما كانت عليه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001.
صدمة انتخاب ترامب
في مقدمة الكتاب، يشير المحرر إلى أن الولايات المتحدة ما تزال قادرة على «صدم» العالم بحقائق ووقائع ومتغيرات لافتة للنظر. منها جزئية محددة تتعلق بآخر رئيسين: فبعد أول رئيس من أصول إفريقية؛ باراك أوباما، يأتي الرئيس الخامس والأربعون الذي كرّس «التمييز» كإحدى الدعائم التي قامت عليها حملته الرئاسية. ثمة عامل صادم آخر؛ إذ إن ترامب «استطاع تحقيق الفوز على ما بدا أنه «جبهة شعبية» صلبة تحظى بدعم، معظم الشركات الأمريكية، وسائل الإعلام، المؤسسة السياسية والنشطاء الليبراليين ممن اصطفوا وراء المرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون. وعلى الرغم من هذه العوامل كافة -أو ربما، لنكون دقيقين في وصفنا، لنقل بسبب هذه العوامل كافة- فقد سلّم النظام السياسي المضطرب في الولايات المتحدة أقوى منصب في العالم إلى شخص خسر الأصوات الشعبية، وهو ما يحصل للمرة الثانية في غضون 16 عاماً.
يتابع لانس سيلفا في مقدمة الكتاب قوله إن انتخاب ترامب قد صدم المؤسسة السياسية والإعلامية. ويشير إلى أنه حتى معظم من هم في اليسار، ممن اعتادوا على الدمار الاقتصادي والإحباط اللذين يرتكز عليهما فكر ترامب ويدعمان جشعه، ظنوا أن فوزه مستبعد.
دور الطبقة العاملة
وعلى اعتبار أن جزءاً كبيراً وواسعاً من النقاش الوارد في المقالات التي يتألف منها الكتاب يتعلق بالطبقة العاملة في أمريكا، فإن الكاتبة والناشطة شارون سميث تورد فقرة كاملة في مقالها بعنوان «الحالة الحقيقية للطبقة العاملة في الولايات المتحدة». تقول فيها إن» الطبقة العاملة في الولايات المتحدة كانت تحظى بأعلى الأجور في العالم في فترة الطفرة الاقتصادية التي تلت الحرب العالمية الثانية، لكن هذه الأجور شهدت انحداراً ثابتاً في أواسط السبعينات. لكن اليوم، تنال هذه الطبقة الأجور الأقل مقابل نظيراتها في دول المنظمة الدولية للتعاون الاقتصادي والتنمية. وتتابع الكاتبة بأنه حتى مع أن وسائل الإعلام الأمريكية تستخدم وصف ال «ركود» للدلالة على وضع الأجور في أمريكا، إلا أن الواقع أسوأ من هذا بكثير.
يأتي هذا التركيز على الطبقة العاملة في أمريكا لأنها سترد كثيراً في المقالات التي يتألف منها الكتاب، حتى إن بعض الكتّاب سيحملون هذه الطبقة جزءاً لا بأس به من وزر الوصول بدونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
صعود الشعبوية
يميل معظم المشاركين في الكتاب، على توافق آرائهم حيناً واختلاف منظور دراساتهم حيناً آخر، إلى وضع الديمقراطيين في صُلب «الخطأ» الذي ارتُكب وأدّى إلى هذه النتيجة المتمثلة بوصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
أمام هذه الفكرة المحورية، يقدم كلّ من المشاركين في الكتاب رؤى ومقاربات خاصة ومفصلة. في مقدمة الكتاب والمقالة الأولى يطرح لانس سيلفا و شارون سميث، على التوالي، فكرة كيف فتح الديمقراطيون الباب أمام اتجاه ترامب الشعبوي اليميني من خلال التزامهم النيوليبرالي وفشلهم أيام حكم الرئيس السابق باراك أوباما في تلبية حاجات المواطنين الأمريكيين المنتمين للطبقة العاملة.
في المقالة الخامسة، يرى الباحث السوسيولوجي الاسكتلندي نيل دافيدسون انتصار ترامب كجزء من ظاهرة عالمية. وبتعبير محدد، يرى دافيدسون أن هذا الصعود المقلق للشعبوية ذات النزعة اليمينية جاء ل»يملأ الفراغ اليساري»، الذي يعدّ بدوره نتيجة لتراجع اليسار الجاد المناهض للرأسمالية.
وبحسب ما تورده المؤرخة نانسي فرايزر في مقالتها «نهاية النيوليبرالية التقدمية» التي سبق أن نشرت قبل قرابة العام، فإن الهزيمة المريرة التي تعرضت لها هيلاري كلينتون كانت نقطة تحول شهدت «نهاية النيوليبرالية التقدمية» – وكانت هزيمة تحالف من التيارات السائدة لحركات اجتماعية جديدة (النسوية، مناهضة العنصرية، التعددية الثقافية، حقوق المثليين) من جانب، وقطاعات الأعمال المهمة وذات الرمزية (وول ستريت، وادي السليكون، وهوليوود) على الجانب الآخر. «وبناء على تحليل فرايزر، فإن النيوليبرالية التقدمية تعرضت للرفض من قبل ناخبي ترامب البيض من الريفيين وممن انحسرت أعمالهم الصناعية. وبهذا، فبالنسبة لفئة أولئك الأمريكيين المتروكين (التي لا تشمل فقط العمال الصناعيين،… وإنما تشمل المديرين، أصحاب الأعمال الصغيرة، وكل المعتمدين على الصناعة. ناهيك عن التعدادات السكانية الريفية التي دمرتها البطالة والمخدرات)، فإن أزمة الأخلاقية التقدمية قد فاقمت أزمة انحسار الصناعة، ما أدى بالتالي إلى حصول تراجع ثقافي. وعبر رفض العولمة، فإن ناخبي ترامب قد نبذوا أيضاً الكوزموبوليتانية العالمية المرتبطة بها.
في المقالة السابعة في الكتاب، تقول البروفيسور في جامعة برينستون كيانغا-يامتا تايلور إن «المخاوف والتحديات التي مثلتها إدارة ترامب لا ينبغي أن تحجب النقاش شديد الأهمية حول الكيفية التي وصلت بها هذه الإدارة إلى السلطة. إذ لا يمكن فهم صعود ترامب دون النظر إلى الخلل الذي وقعت فيه المؤسسة الليبرالية وفشلها في تقديم البديل الحقيقي لشعبوية ترامب الرجعية».
سرديات تفوق القومية البيضاء
في المقالات الثانية، والثالثة والرابعة، يفنّد الباحث الاجتماعي والناشط تشارلي بوست والكاتب كيم مودي (في مقالتهما المهمة «من وضع دونالد ترامب في البيت الأبيض؟») والمؤلف اليساري المرموق مايك ديفيز السردية المتداولة إعلامياً التي ربطت انتخاب دونالد ترامب بصعود «الطبقة العاملة البيضاء». إذ يتناولون هذه السردية بالتحليل والتفكيك ليصلوا إلى الأسس الفكرية التي تتيح دراستها وفهمها وإعادة تصورها ضمن المنظومة العامة المتداولة في وسائل الإعلام الماينستمريمية (وهذه تعدّ نقطة لها ما لها وعليها ما عليها بسبب التجاذبات الكبرى بين الرئيس ترامب ووسائل الإعلام).
ويخلص ديفز إلى القول إن ما أوصل ترامب إلى البيت الأبيض «لم تكن تلك الموجة من استياء الطبقة العاملة البيضاء»، وإنما نجاح ترامب في كسب الأغلبية التي كانت تصوت لميت رومني (بمختلف الاتجاهات مثل النساء الجمهوريات من ذوات التعليم الجامعي، اللاتينيين المحافظين، الكوثوليكيين) وهي قطاعات مهمة ومؤثرة كان الإعلام يسلط الضوء عليها بقوة، سيما وأن هيلاري كلينتون كانت تعتمد عليها».
وفي حين أن أقلية من معظم أفراد الطبقة العاملة البيضاء صوتت لصالح ترامب، إلا أن الصورة العامة في ولايات الغرب الأوسط والجنوب كانت تحمل دلالات انخفاض في نسبة المشاركة من الطبقة العاملة وانهيار أصوات الحزب الديمقراطي بين العديد من دوائره الأساسية. إن الحقيقة الأكثر تكراراً التي تم الاستشهاد بها كدليل على دعم الطبقة العاملة في ترامب هو نجاحه بين الناخبين البيض دون الحصول على شهادة جامعية. لكن مودي يظهر مدى هشاشة هذه الأدلة.
أما مايك ديفز، فإن ترامب، برأيه، قد نجح في هذا عبر تنفيذه لمجموعة من الخطوات المهمة في سياق «القومية البيضاء»، وعبر حركة شديدة الخبث؛ الحفاظ على ودّ اليمين الأنجليكاني بمنحه منصب نائب الرئيس (المسيحي المتشدد مايك بينس) وسلطة إعادة تشكيل القضاء الفيدرالي.
في مقالتها «السياسات تجاه السود في عصر ترامب»، تقدم البروفيسور تايلور تحليلاً مفصلاً لفكرة رئيسة هي كيف أن «رئاسة أوباما لم تكن نعمة على الأمريكيين الأفارقة، وإنما مثلت استمراراً مؤلماً للعنصرية، والتمييز، واللا مساواة التي لطالما كانت في مركز حياة السود في أمريكا». وتنتقل الكاتبة للقول إنه عندما بدأت حركة «حياة السود مهمة» بالاحتجاج على المشكلة القديمة المتمثلة في رد الفعل الوحشي من الشرطة تجاه السود، فإن أوباما، بحسب تعبيرها، قدم خدمة للمؤسسة السياسية بمحاولة «إنهاء الحركة من خلال إغراء الناشطين بمحادثات واجتماعات… وبوعود فارغة عن الإصلاح». وتتابع تايلور بأن هيلاري كلينتون لم تضف شيئاً يُذكر لقضية مناهضة العنصرية. بل إنها قد أدارت حملة «تجاهلت ظروف وأحوال الحياة اليومية التي يعيشها الناس العاديون»، فيما ركزت في الآن ذاته على سلوكيات ترامب الفظيعة وتسويق فكرة أن أمريكا عظيمة بالأساس (في رد على شعار حملة ترامب «لنجعل أمريكا عظيمة مجدداً»).
رئيس الأمر الواقع
إذا كانت هناك فكرة واحدة مهمة عن هذه التحليلات التفصيلية، فقد تكون هذه: لقد عملت عقود من الهجوم على مستويات المعيشة الطبقة العاملة في إبعاد العاملين إلى خارج العملية السياسية، ما أدى بالتالي لوضع الأسس لنموذج ديماغوجي مثل ترامب للفوز في الانتخابات مع دعم أقلية من الناخبين من أفراد طبقة وسطى غير متناسبة وذات دخل أعلى.
وكما تقول البروفيسور كيانغا- يامتا تايلور، فإن «هناك 238 مليون ناخب مؤهل في الولايات المتحدة، ومن هذا العدد، صوت 60 مليون فقط لصالح ترامب، وحتى بين هذا العدد، فإن 17 في المئة من الذين صوتوا لصالحه قالوا إنه غير لائق لأن يكون رئيساً»، وهو ما يثير جدلاً متجدداً حول المجمّع الانتخابي.
لكن في حال وجود تفويض شعبي أو عدم وجوده، فإن دونالد ترامب هو رئيس الدولة. وقد أعطته زيادة السلطة في القطاع التنفيذي تحت إدارة الرئيسين بوش الابن وأوباما صلاحيات بعيدة المدى لتحقيق أجندته، حتى في معزل عن تعاون الكونجرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون.
تجادل تايلور بأن التهديد الذي تشكله الهجمات العنصرية بات مرتفعاً. على الرغم من أن ستيف بانون، وهو من اليمين المتطرف، قد عُزل من منصبه كأحد كبار المخططين الاستراتيجيين بجانب ترامب، لكن هناك أصدقاء غيره من اليمين المتطرف لا يزالون في مواقع النفوذ الحقيقي.
ستيفن ميلر، على سبيل المثال، هو أحد المهندسين الرئيسيين لحظر سفر المسلمين والمستشار السياسي الأول لترامب. وأثناء دراسته الجامعية في جامعة ديوك، كان ميلر تحت إشراف طالب الدراسات العليا، آنذاك، ريتشارد سبنسر، الذي أصبح اليوم صوتاً قيادياً لفكرة القومية البيضاء.
وإلى جانب المقالات آنفة الذكر، يضمّ كتاب «السياسة الأمريكية في عصر اللا يقين» مقابلات مع ديبا كومار حول الإسلاموفوبيا، وجاستن آكرز شاكون حول الهجرة، وإليزابيث شولت عن حقوق المرأة.
يخلص الكتاب إلى مقولة عامة مضمونها أن ما جعل من ترامب (والظاهرة الترامبية عموماً) أمراً ممكناً وواقعاً راهناً هو قمع أغلبية الطبقة العاملة وحرمانها. الأمر الذي ترك معظم الناس دون صوت في الانتخابات الأخيرة. وفي حين أن عواقب ذلك كارثية، إلا أنه ينبغي، مع ذلك، أن نتذكر أن الطبقة العاملة يمكن أن تجد هذا الصوت مرة أخرى – وتدفع ترامب والمؤسسة كلها خارج السلطة.