أحداث البصرة في ذمّة الصدر… وسليماني يتهيأ للرد
علي الأمين
تراجع حالة الرهاب من إيران لدى النخبة الشيعية العراقية نقطة فارقة للنفوذ الإيراني في البلاد.
ظلت إيران جاثمة على صدر العراق على مدى 15 عاما؛ فما الذي صار اليوم، ليثور العراقيون، في البصرة، ويحرقوا العلم الإيراني ويعلنوا العصيان على نخبة “الولي الفقيه” الحاكمة. ما حدث هو أنّ صبر العراقيين نفد، فهم لم يكونوا يبحثون عن “وليّ فقيه”، بل كانوا صابرين يتطلّعون إلى وضع حياتيّ أفضل على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإلى “وطن”، اكتشفوا أن إيران احتلته سياسيا وعسكريا. وصل العراقيون إلى مرحلة الانفجار بسبب الجوع والعطش والبطالة والتهميش والإرهاب والفساد ومصادرة الحق في العيش الكريم، وبالتالي وجبت محاسبة من أسس لتلك المآسي.
لا شك أنّ البارز في أحداث البصرة، كان مشهد الاعتراض الشعبي على سوء الخدمات على أبسط المستويات أي الماء والكهرباء بالدرجة الأولى، فهذه المدينة التي تسكنها غالبية شيعية، هي الثالثة بعد العاصمة بغداد ومدينة الموصل من حيث الحجم وتعداد السكان، وهي الأولى من حيث الأهمية الاقتصادية، فهي تحتضن ميناء تصدير النفط العراقي، وهي المدينة العراقية الوحيدة المطلة على الخليج العربي، وتعتبر المصدر الأول للنفط وللموارد المالية للخزينة العراقية.
لهذا السبب، ولكونها كانت المدينة الأهم في العراق من حيث التنظيم المدني وتوفر الخدمات فيها، منذ تأسس العراق الحديث، ولأنّها المعبر الأساسي للنفط العراقي نحو الخارج، ومقر للعديد من الشركات النفطية والصناعية المرتبطة، تميزت هذه المدينة بكونها من المدن العراقية التي تتميز بنوع من الرفاهية مقارنة ببقية المدن العراقية.
تركز انفجار الاحتجاجات في البصرة بدرجة أساسية على عناوين إيران في المدينة، فضلا عن المحافظة الغائبة إلاّ عن الفساد والتي تمثل سلطة الدولة وتتحمل مسؤولية عدم التجاوب مع مطالب المواطنين المحقة، فحرق القنصلية الإيرانية ليس هو الحدث البارز فحسب في مسلسل الأحداث الذي سقط فيه خلال أيام أكثر من خمسة عشر قتيلا وعشرات الجرحى من المحتجين، بل حرق مقرات الميليشيات الشيعية لا سيما تلك المعروف ارتباطها الوثيق بإيران كمنظمة “بدر” و”عصائب أهل الحق” و”الدعوة” جناح نوري المالكي وغيرها من المقرات، كشف إلى حدّ بعيد أنّ موجة الغضب في البصرة تركّزت ضدّ مظاهر النفوذ الإيراني بالدرجة الأولى.
ودفع هذا الماكينة الإعلامية التابعة لمحور إيران إلى ربط الأحداث بتدخّلات خارجية، فأحالت أحداث حرق القنصلية والمقرّات الحزبية إلى تحريض دول معادية على إيران، أي السعودية والإمارات، وصولا إلى الولايات المتحدة الأميركية، ولم يغب عن لائحة الاتهامات كل من يندرج في إطار ما تسمّيه القوى التابعة لإيران، القوى الصهيونية والتكفيرية.
سواء كانت التدخلات الخارجية صحيحة أو غير صحيحة، فإنّ العراقيين عموما، وأهل البصرة على وجه الخصوص، يدركون أنّ المآسي التي يعيشونها، والإهمال الذي يُقابل مطالبهم المحقّة به، ليست إلا نتاج سلطة عراقية كانت إيران الطرف الداعم لتولّيها، إذ لا يمكن الحديث في العراق عن حكومة تشكلت منذ الغزو الأميركي في عام 2003 حتى اليوم، لم تكن برضا الولايات المتحدة وإيران، فطهران هي الطرف الذي يقرر أو يوافق على اسم رئيس الحكومة والوزراء الشيعة، وبعد ذلك توافق واشنطن أو تعترض، فالمعادلة التي جمعت الأميركيين والإيرانيين في مقاربة قضية السلطة في العراق، تقوم على قاعدة أنّ طهران هي من يسمي المسؤولين العراقيين في الحكومة ولا سيما الشيعة منهم، مقابل التزام القيادة الإيرانية بضمان عدم المس بمتطلبات واشنطن وبرامجها.
من هنا، فإنّ محاولة إيران التملص من مسؤولياتها حيال الدرك الذي وصل إليه العراق، لم تعد تقنع العراقيين، وهو ما أظهرته ردة فعل المحتجّين في البصرة من سوء الخدمات وانعدامها، التي استحضرت إيران كطرف مسؤول عن أزماتهم.
غضب عراقي من ممارسات طهران
وفي هذا السياق تؤكد مصادر متابعة من داخل العراق أنّ الغضب الإيراني غير المعلن يتركز على اتهام السيد مقتدى الصدر بأنّه هو الذي أوعز لمناصريه في البصرة باستهداف المراكز الإيرانية، خصوصا أنّ مقرات ومكاتب التيار الصدري لم تتعرض لأيّ اعتداء أو إحراق في البصرة، فضلا أن الأحداث جاءت بعد تطور لافت لم يعلن عنه، تمثل في رفض الأمين العام لحزب الله لقاء مقتدى الصدر خلال وجوده في بيروت قبل نحو عشرة أيام، لا سيما أنّ الصدر كان يأمل إيجاد صلة وصل مع القيادة الإيرانية من خارج نافذة قائد فيلق القدس قاسم سليماني وفريقه في العراق، بسبب توتر العلاقة معه، وثبت لدى الصدر أنّ الإيرانيين لا يريدون بناء علاقة متوازنة تراعي الخصوصية الوطنية العراقية. وغادر بيروت إلى بغداد الأسبوع الماضي، لتنطلق الأحداث في البصرة غداة وصوله.
الصفعة التي تلقتها السياسة الإيرانية في العراق، ساهمت أيضا في إطلاق حملة شعواء على رئيس الحكومة حيدر العبادي، وبحسب المعلومات، فإنّ القيادة الإيرانية تعتبر أنّ العبادي تساهل في مواجهة الاحتجاجات.
من هنا، فإنّ غضب إيران لن يمر من دون عقاب. ويبدو في الظاهر أنّ العبادي هو من يستحق العقاب الإيراني بإخراجه من السباق الرئاسي، لكن ما هو مسكوت عنه في العلن هو الهدف الحقيقي، أي مقتدى الصدر. لكن ما يجعل الصدر محصّنا هو أنّ القيادة الإيرانية لم تجد آذانا صاغية لهذا التوجه لدى مرجعية النجف، التي لم تعط أي إشارة يمكن أن يستفاد منها إيرانيا للنيل من الصدر.
وبعد انقشاع المشهد الميداني برز بوضوح أنّ إيران لم تكن هذه المرة طرفا قادرا على التواري مقابل أصوات والمحتجين العراقيين، بل انكشفت كطرف لا يمكن تفاديه حين المطالبة بأبسط الحقوق، وهذا إنّ دلّ على شيء فهو يدلّ على أنّ إيران لن تكون بمنأى عن الاحتجاجات التي ستخرج مستقبلا من المدن الشيعية في العراق، وذلك لقناعة باتت راسخة لدى معظم العراقيين بأنّ أيّ نهوض بالدولة العراقية لا يمكن أن يكون بمنأى عن تراجع النفوذ الإيراني في هذا البلد.
ما يجعل مقتدى الصدر محصّنا هو أنّ القيادة الإيرانية لم تجد آذانا صاغية لهذا التوجه لدى مرجعية النجف، التي لم تعط أي إشارة يمكن أن يستفاد منها إيرانيا للنيل منه… والصدر الأقدر على تحريك الشارع
في المقابل فإنّ الكتل البرلمانية العراقية ولا سيما الشيعية، لم تستطع بعد استيعاب ما جرى، فهي تدرك أنّ المواجهة مع إيران ليست مضمونة النتائج، بل إنّ لدى إيران من الأوراق حتى مع الأميركيين من أجل مقايضة نفوذها بتقديم تنازلات لواشنطن، لكن ما يمكن أن نسميه حالة الرهاب من إيران لدى النخبة الشيعية العراقية، تراجع لصالح بروز مساحة أوسع لتحرك هذه النخبة في الحيّز الوطني.
من هنا، فإن تشكيل الكتلة الأكبر في البرلمان دخل في مرحلة جديدة عنوانها إعادة خلط الأوراق الذي دفع الصدر عبر كتلة سائرون إلى العمل على جذب قوى جديدة للحلف الذي عقده مع كتلة النصر التي يرأسها العبادي، والإغراء الذي يقدمه الصدر لهؤلاء بشرط استبعاد نوري المالكي هو فتح الباب أمام إعادة الاتفاق على خيار جديد بالنسبة لتشكيل الحكومة ورئاستها بالتوافق. ومنها قائمة الفتح التي يرأسها هادي العامري.
يبقى أنّ مقتدى الصدر الذي نالت قائمته في الانتخابات النيابية المرتبة الأولى في الانتخابات البرلمانية، يشكل اليوم التحدي الأبرز لإيران داخل البيئة الشيعية، ذلك أنّ الصدر هو الأقدر على تحريك الشارع، وهو بتحالفه مع العبادي والحكيم أصبح يمتلك شرعية شعبية عراقية صافية ليس لإيران أي دور فيها، بخلاف بقية القيادات التي برزت أسماؤها خلال وجودها في إيران أو بسبب علاقتها القوية مع القيادة الإيرانية في العراق.
يدرك الصدر، بغريزته السياسية، أنّ مصدر قوته يكمن في عدم الاقتراب من إيران، لكن ليس إلى الحدود التي تجعله طريدا لسليماني بعدما كان طريدا لحاكم العراق الأميركي بول بريمر قبل عشر سنوات.
* نقلا عن “العرب”