قضايا ودراسات

أزمة فرنسا.. ومادية بريطانيا

محمد خليفة

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أعلنت فرنسا آنذاك أنها تأمل في «تكييف التنظيمات الفرنسية، بما في ذلك الضريبية؛ لجعل مركز باريس المالي أكثر جاذبية»؛ وبما يؤدي إلى أن تحل باريس محل لندن كمركز مالي عالمي. ورغم أن فرنسا دولة كبرى، وعضو دائم في مجلس الأمن، إلا أنها ليست في مستوى بريطانيا سياسياً واقتصادياً. وخروج هذه الأخيرة من الاتحاد الأوروبي لن يؤدي إلى عزلتها؛ نظراً لتشعب علاقاتها عبر العالم، فتاريخها الاستعماري، لا يزال حاضراً بقوة.
وربما تعول فرنسا في طرحها الجديد لمنافسة بريطانيا على ريادة عالم المال، على منطقة اليورو؛ لكن هذه المنطقة لن تبقى كما هي؛ بل سوف تتقلص مع رغبة العديد من الدول الفرار من الاتحاد الأوروبي، وتعد هولندا ثاني دولة بعد بريطانيا مرشحة للخروج من هذا الاتحاد، فقد وقع أكثر من 50 ألف هولندي على عريضة؛ تدعو إلى تنظيم استفتاء لهذا الغرض.
والواقع أن فشل الاتحاد الأوروبي في تجسيد تجربة وحدوية أممية؛ سوف ينعكس على مختلف التجارب الوحدوية في كل مكان، فهناك تغييرات كبيرة تحصل في العالم، وهذه التغييرات تمليها ظروف تراجع الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة لمصلحة الصين، التي باتت تتقدم على مختلف الصعد، وخاصة الاقتصادية منها. ورغم أن بريطانيا هي جزء من المحور الغربي، إلا أن هذه الدولة التي تجيد قراءة السياسة الدولية آثرت أن تخط لنفسها طريقاً مستقلاً، حتى لا تُملَى عليها سياسات أو إرادات لا تريدها.
والحقيقة أن تصويت غالبية البريطانيين بالخروج من الاتحاد الأوروبي، كان صرخة احتجاجية على ذوبان الإرادة البريطانية في إرادة الاتحاد الأوربي، الذي يقوده فعلياً الغريمان السابقان الألماني والفرنسي، ورغم أن هذه النتيجة لم ترضِ الحليف الأمريكي مطلقاً؛ لكنها تمثل إرادة بريطانية صادقة نحو التغيير.
والواقع أن بريطانيا تهيمن، منذ فترة طويلة، على سوق الصرف الأجنبي؛ نظراً لمقدرتها على التداول مع الشرق والغرب على السواء، ففي عام 2014 افتتح في لندن أول بنك لمقاصة اليوان خارج آسيا، ما عزز من محاولة بريطانيا لتصبح المركز الرائد لتداول العملة الصينية. وكانت بريطانيا قد انضمت إلى بنك الاستثمار في البنى التحتية، الذي أنشأته الصين؛ لتمويل مشاريع البنى التحتية في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، برأسمال يبلغ 100 مليار دولار.
وقد أصبحت بريطانيا من كبار المساهمين في البنك. وهذا الأمر يعني أنها تسعى للفكاك من الالتزام بسياسة الولايات المتحدة؛ الرامية إلى محاصرة الصين، ولا شك أن فرنسا لا تملك جاذبية بريطانيا، ولا تملك علاقاتها في العالم. ومن هنا فإن مساعيها لإزاحتها كمركز مالي عالمي، لن تكلل بالنجاح، فالاقتصاد مرتبط بالسياسة إلى حد بعيد، ويمر العالم كله بمرحلة تغيير كبيرة وخاصة على صعيد الاقتصاد، وكل المؤشرات الاقتصادية تدل على أن الكتلة المالية العالمية تنزاح نحو الشرق، ولن يكون للبورصات الغربية القدرة على الاستمرار من دون أن يكون لها صلات واسعة بتلك التي في الشرق، وهذه الصلات بدأت بريطانيا عبر اشتراكها ببنك الاستثمار الآسيوي. وإذا كانت فرنسا نفسها غير متأكدة من حقيقة بقائها في الاتحاد الأوروبي، وخاصة إذا وصلت المعارضة اليمينية إلى الحكم في الانتخابات القادمة؛ فإن الأحلام بجعل باريس مركزاً لتعاملات اليورو، قد تذهب أدراج الرياح. وها هي فرنسا تعيش حالياً أزمة سياسية واقتصادية؛ بعد أزمة «السترات الصفراء»، الذاهبة إلى مزيد من التصعيد.
كل ذلك يحدث في أوروبا؛ بسبب تغير خريطة التوازنات الدولية، فالقوة التي امتلكها الغرب في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، تبددت اليوم؛ إذ لم تعد الولايات المتحدة قوة عظمى وحيدة في ظل تنامي الدورين الروسي والصيني.

زر الذهاب إلى الأعلى