إخفاق جديد لمنظمة التجارة العالمية
المثير هو أنها المرة الثالثة التي يتم فيها تقديم هذا الالتماس نيابة عن مصالح أغلبية الدول الأعضاء في المنظمة (عددها 164 دولة)؛ أي الدول النامية، ويتم رفضه من قبل الدول المتقدمة التي تحوز ملكية هذه اللقاحات.
ومع أن منظمة التجارة العالمية (وهي مؤسسة مفصلية في النظام الاقتصادي العالمي) لم تنشأ بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كبقية المنظمات الاقتصادية الدولية التي تشكل عصب نظام العلاقات الدولية، وإنما أنشئت في يناير 1995 بعد أن تغيرت موازين القوى الدولية، ومنها صعود الهند والصين وجنوب إفريقيا والبرازيل كدول نامية لها وزن في النظام الدولي، إلا أن هذه الدول النامية القيادية لم تُفلح في تفادي مصير الهيمنة الغربية على هذه المنظمة كسائر المنظومة المؤسسية للنظام الدولي.
فحين اعتقدت الدول النامية التي تشكل الأغلبية الساحقة من الدول الأعضاء في المنظمة، أن آلية اتخاذ القرارات بالإجماع، ستحفظ حقوقها، تبين لها لاحقاً أن معارضة الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والدول الأخرى ذات الدخل المرتفع، كانت كافية لعرقلة التقدم حتى في مرحلة المفاوضات المتعلقة بنصوص/مسودات المقترحات ومشاريع القرارات. ولا ننسى أن نلفت الانتباه عرَضاً إلى أن الولايات المتحدة كانت قد أعاقت وصول النيجيرية نجوزي إلى منصب المدير العام للمنظمة، حيث دعمت منافستها الكورية الجنوبية يو ميونج.
ومع أن الالتماس بتعليق العمل مؤقتاً باتفاقية حماية حقوق الملكية الفكرية المتعلقة حصراً بلقاحات «كوفيد 19»، قد اكتسب دعماً متزايداً من الدول النامية، فاق 57 دولة، إضافة إلى مجموعة إفريقيا بأكملها، ومجموعة الدول الأقل نمواً في المنظمة، وعلى الرغم من الضغوط التي مارسها العديد من النشطاء عبر العالم على إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن للانفصال عن سابقتها، وإبداء تأييدها للالتماس، وعلى الرغم من توقيع أكثر من 60 عضواً في الكونجرس على خطاب يطالب إدارة بايدن بدعم هذا الالتماس، ومن ضمنهم النائب الأمريكي يان شاكوسكي، الذي وصف التحفظ على الالتماس خلال مؤتمر صحفي مطلع مارس الماضي، ب«الفصل العنصري للقاح»، وعلى الرغم من أن قادة أوروبا هم أيضاً واجهوا ضغوطاً مماثلة، حيث دعا 115 من بين 700 عضو في البرلمان الأوروبي، قادة المفوضية الأوروبية، إلى التخلي عن اعتراضاتهم على المقترح الهندي الجنوب إفريقي، فإن كل ذلك ذهب سدىً، ولم تتزحزح لا الولايات المتحدة، ولا أوروبا، عن موقفهما الداعم لشركات إنتاج اللقاحات التي لجأت إلى لوبياتها داخل الحكومة الأمريكية وداخل المؤسسات التشريعية الأمريكية والأوروبية، لإجهاض المقترح.
قبالة هذا الضغط كان هناك ضغط مسبق مارسته مؤسسة الأبحاث ومنتجو الدواء في الولايات المتحدة (PhRMA)، وهي مجموعة ضغط تمثل المصالح التجارية للشركات العاملة في صناعة الأدوية الأمريكية، حيث بعثت رسالة إلى الرئيس الأمريكي جو بايدن في وقت سابق من مارس الفائت، زعمت فيها أن هذه الدول تجادل «بدون دليل» بأن حقوق الملكية الفكرية تعيق التوسع في إنتاج اللقاح. وبدلاً من ذلك، تزعم PhRMA أن القيام بذلك من شأنه أن يقوض بشكل أساسي الاستجابة العالمية ل«كوفيد 19»، دون أن تترتب على ذلك أي فوائد كبيرة للدول النامية! وأن الملكية الفكرية هي الأساس لتطوير ومشاركة التقنيات الجديدة. ومع ذلك، فهي لا تقدم أي دليل يدعم هذه الادعاءات.
في ظل إصابة حوالي 20% من سكانها البالغين بفيروس نقص المناعة المكتسبة (HIV)، وتوقع ولادة 60 ألف طفل مصابين بالفيروس كل عام، فقد أصدرت حكومة جنوب إفريقيا في أواخر تسعينات القرن الماضي، تشريعات للسماح بالترخيص الإلزامي والاستيراد الموازي لمضادات الفيروسات القهقرية (Antiretrovirals) اللازمة، مثل فيروس نقص المناعة المكتسبة.
فكان أن سارعت كبرى شركات الأدوية في العالم لرفع دعوى قضائية ضد جنوب إفريقيا بموازاة الضغط على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين لفرض عقوبات اقتصادية على جنوب إفريقيا وقطع المساعدات الخارجية عنها، ومنعها من محاربة وباء نقص المناعة المكتسبة. فقد استهدفوا مباشرة، تدمير اقتصاد جنوب إفريقيا التي كانت خرجت للتو من معركتها ضد الفصل العنصري. ولحسن الحظ، أدت سنوات من الضغط الشعبي العالمي، إلى إسقاط القضية ضد جنوب إفريقيا.
وفي الواقع، فإن الالتماس المقدم من الهند وجنوب إفريقيا، بخصوص لقاحات «كوفيد 19»، لا يلغي على الإطلاق حقوق الشركات في حيازة براءات الاختراع؛ بل يحثها على السماح بالإنتاج العام للقاح مقابل رسوم. لما كان الأمر كذلك، فإن تكلفة هذا التسهيل الإنتاجي، لا تقارن في الواقع مع الدعاوى القضائية التي ترفع ضد شركات إنتاج الأدوية واللقاحات بتهم الاحتيال والتلاعب الإجرامي بالعلامات التجارية وغيرها من الجرائم، قبل تسويتها ودياً بعشرات مليارات الدولارات.