جديد الكتب

«إسرائيل».. جحيم اللاجئين الأفارقة

تأليف: مايا غوارنيري جرادات ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

هربوا من ويلات الحروب التي فتكت ببلادهم إلى «إسرائيل»، ظناً منهم أنها تحمل لهم أياماً أجمل، لكن آمالهم خابت بمجرد أن عبروا الحدود، فكان الجحيم بانتظارهم.. هكذا ترى الكاتبة مايا غوارنيري جرادات، ما حدث للاجئين في «إسرائيل»، والأفارقة منهم بوجه خاص، وبالاستناد إلى خبرتها في التغطية الإخبارية هناك خلال عشر سنوات تسلط الضوء على حياتهم البائسة، وتصف مراكز الاحتجاز غير القانونية إلى أماكن معيشتهم، والمآسي التي يعيشونها.

تحاول الكاتبة مايا غوارنيري جرادات، أن تستعرض في عملها هذا أحد أكثر الجوانب غير المعروفة للرأي العام، فتتناول معاملة «إسرائيل» القاسية للقادمين الجدد إليها، وتقف عند زاوية جديدة على الصراع «الإسرائيلي» الفلسطيني، مشككة أيضاً في تبرير «إسرائيل» الدائم لسوء معاملة الفلسطينيين بسبب التهديد على الأمن القومي. وتهدي عملها إلى المهاجرين في العالم، وكل الساعين إلى اللجوء طلباً للحرية، وهرباً من الاضطهاد والحرب، والعمال الذين يكافحون لأجل عائلاتهم وأطفالهم.
تأتي أهمية العمل من قدرة الكاتبة على محاورة ومقابلة بعض من أكثر الناس تهميشاً وإسكاتاً في «إسرائيل» اليوم، خاصة أن قضيتهم باتت تحظى بأهمية كبيرة في المجتمع «الإسرائيلي».
انتهاكات حقوق الإنسان
تشير الكاتبة إلى أنه في الوقت الذي يعد فيه العمال المهاجرون وطالبو اللجوء مجموعتين منفصلتين تتعاملان مع ظروف مختلفة في «إسرائيل»، باعتبارهم غير يهود، فهناك قواسم مشتركة في تجربتهم. وباعتبار أن «إسرائيل» لا تعترف بأطفال أي مجموعة، فإن كلاً من العمال المهاجرين وطالبي اللجوء لا يملكون خياراً، سوى إرسال أطفالهم الصغار إلى حضانات السوق السوداء. ومن بين من تتحدث عنهم الكاتبة امرأة تدعى ميمي هايلاماشيش، في الثامنة والعشرين، طالبة لجوء من إريتريا، ليس لديها عائلة في «إسرائيل»، بل بضعة أصدقاء، شهدت المشقات الكثيرة كأم، إذ كان عليها أن تعمل ساعات طويلة في أعمال الخدمة المنزلية، لكن لكي تقوم بذلك توجب عليها إرسال طفلتها إلى مكان آمن لرعايتها، فلم تجد سوى حضانة في السوق السوداء.
وتتطرق الكاتبة إلى قصة هذه المرأة التي غادرت بلادها إريتريا في 2010 مع زوجها وطفلتها الرضيعة. كانوا قد توجهوا في البداية إلى السودان، ليهاجروا إلى أوروبا، إلا أن تكلفة الطريق فرضت عليهم أن يتوجه الزوج فقط إلى ليبيا، ومن ثم إلى أوروبا، وتبقى الزوجة في مخيمات اللجوء في السودان، وبسبب الظروف السيئة في تلك المخيمات، قررت التوجه إلى «إسرائيل» كدولة آمنة، كما اعتقدت، لكنها شهدت معاناة من نوع آخر، بمجرد أن عبرت الحدود، وجدت نفسها قيد الاعتقال، ثم تم إيداعها السجن مع طفلتها من دون محاكمة لمدة سنة تحت تهديد الترحيل إلى بلد آخر، وبعد مضي تلك الفترة، وجدت نفسها خارج السجن من دون مأوى، أو تصريح بالعمل بشكل قانوني. وتورد الكاتبة أن وزير الداخلية «الإسرائيلي» السابق إيلي يشاي، كان يذكر أن الفكرة من وراء هذه المعاملة القاسية هي جعل حياة طالبي اللجوء بائسة، ما يفرض عليهم المغادرة من تلقاء أنفسهم هرباً من الجحيم الذي يعيشونه في «إسرائيل».
كما تسرد المؤلفة قصة شاب من جنوب السودان فقد والديه بسبب قصف مدفعي عندما كان في العاشرة، حينها توجه إلى مخيمات اللجوء في إثيوبيا، وبعد أن بلغ العشرين توجه إلى مصر، وعبر سيناء دخل «إسرائيل»، ظناً منه أنه وجد وطناً له، ويستطيع أن يكمل دراسته، ويكوّن أسرة في جو من الأمان. لكنه تفاجأ بالاستقبال، حيث مكث في السجن أربعة عشر شهراً، عانى خلالها جوعاً وظروفاً قاسية، ولعل أنسب تعبير يمكن أن نورده هنا هو رده على الكاتبة عندما سألته عن أحوال السجن في 2012، وهو أن السجن «الإسرائيلي» لم يكن ينتهك الجسد، بل ينتهك الروح ويكسرها، قاصداً بذلك أساليب التعذيب النفسية التي كان السجّانون «الإسرائيليون» يستخدمونها بحقهم، حتى إنه عندما أطلقوا سراحه، فرضوا عليه شرط عدم العمل، فضلاً عن أنهم كان يجابهون بعنصرية في بعض الشوارع بسبب لونهم.
وتتحدث الكاتبة عن هذه المعاملة القاسية بشكل مفصل قائلة: «في السنوات الأولى، لم يسمح لأي من طالبي اللجوء بتقديم طلب اللجوء، فجميعهم – بمن فيهم القصر، أي الأطفال الذين من دون والديهم – تم اعتقالهم عند الوصول. ولم يظهر أي منهم أمام قاض، بل تم وضعهم من دون محاكمة في السجون، والمخيمات الصحراوية في أماكن عشوائية مكثوا فيها من أيام إلى أسابيع وشهور، حتى بلغ الأمر ببعضهم للبقاء أكثر من سنة. وكان إطلاق سراحهم يجري بشكل اعتباطي، فقط عندما تريد السلطات توسيع المكان لطالبي لجوء آخرين جدد، يقومون بإطلاق سراح بعضهم. وكان حراس السجن يقومون برسم خط غير مرئي بأياديهم للفصل بين من سيبقى ومن سيغادر. في هذه الحالة بعضهم يبقى لأيام، وبعضهم لأكثر من سنة».
استبدال العمالة الفلسطينية
تذكر الكاتبة أن حالة «الآخرين»، أي غير اليهود، مرتبطة بشكل غير منفصم مع حالة الفلسطينيين. فقد كان عمال السخرة الفلسطينيون يشكلون قرابة 10 في المئة من القوى العاملة «الإسرائيلية» فيما سبق. وعندما بدأت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، كان نصف عمال البناء تقريباً فلسطينيين، كما أن نحو 45 في المئة من العاملين في قطاع الزراعة أيضاً فلسطينيون. لكن في أوائل التسعينات شهدت «إسرائيل» انتقالاً إلى العمالة الأجنبية، إذ جلبت العمال المهاجرين كي تقلل اعتمادها على الفلسطينيين. وبوجود عدد كبير من العمالة الأجنبية، يمكن ل«إسرائيل» أن تتحكم بشكل أفضل في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ولم يمض وقت طويل على استبدال «إسرائيل» عمال السخرة الفلسطينيين بالعمال المهاجرين، حتى أصبح الانفصال بين «إسرائيل» والأراضي المحتلة أشد عمقاً. وبشكل عام، مع فرض القيود على دخول العمال الفلسطينيين إلى «إسرائيل»، بدأ الكيان بإصدار المزيد من التأشيرات ل«الآخرين»، فباتوا بدائل للفلسطينيين ليس جسدياً فقط، بل نفسياً أيضاً، والسبب أن معاملة «إسرائيل» مع طالبي اللجوء أيضاً تشابه بشكل كبير تلك المعاملة التي كان الفلسطينيون يتلقونها. «فإسرائيل» كانت تخضع المجموعتين إلى الاعتقال من دون محاكمة، ووسعت من صلاحيات قانون منع التسلل في 1954، في البداية أوجدته لأجل منع اللاجئين الفلسطينيين من العودة إلى منازلهم داخل دولة «إسرائيل» الناشئة، وامتد القانون بهذا الشكل ضد طالبي اللجوء الأفارقة أيضاً.
وحول هذه الحالات اللاقانونية والمعاملة القاسية «للإسرائيليين» بحق العمال المهاجرين تقول الكاتبة: «تساءلت: كيف استطعت البقاء في «إسرائيل» عندما كانت الأقليات تتعرض للاضطهاد لأجل البقاء في دولة يهودية؟ هل يمكنني البقاء في مكان يتقلص فيه الفضاء الديمقراطي؟ وكيف يمكنني أن أشعر بالحرية في مكان يتم تجريد العديد من الأشخاص من أبسط حقوقهم الإنسانية؟ كلما تعمقت في تفكيري بالأمر، زاد شعوري بأن «إسرائيل» ليس المكان الذي أشعر فيه براحة».
وتتحدث المؤلفة عن أعداد المهاجرين الأفارقة، وبدايات وصولهم بطريقة سردية قصصية، فتقول «في عام 2004، عبر أحد عشر شخصاً من دارفور الحدود «الإسرائيلية» مع مصر. وفي عام 2005، تبعهم 450 سودانياً، وبعدها بسنة تضاعف عدد طالبي اللجوء الأفارقة. كانت هذه الهجرة بداية الهجرة الأولى على نطاق عريض لطالبي اللجوء الأفارقة إلى الدولة العبرية. هذه الموجة رست على 60 ألف طالب لجوء. في البداية، قدم الكثير منهم من مناطق النزاع في السودان، خاصة دارفور. وفي 2007، بدأ الإريتريون بالوصول جراء سوء الأوضاع الأمنية والاقتصادية والمعيشية في بلادهم، إلى أن أصبحوا أكبر مجموعة لطالبي اللجوء الأفارقة في «إسرائيل»». وتضيف الكاتبة معلومات عن بدايات وصولهم: «بدأ ظهور طالبي اللجوء الأفارقة في «إسرائيل» في الثمانينات، لكنهم كانوا حفنة هنا وهناك. جاء أغلبهم من إثيوبيا، بعضهم أخذ تصريحاً بالإقامة حينها. كما كان هناك لاجئون وصلوا من الكونغو، وساحل العاج، وليبيريا، وسيراليون. حصل هؤلاء على حماية جماعية مؤقتة ضد الترحيل لأن «إسرائيل» لم تستطع أن تطردهم من دون انتهاك القانون الدولي. كانت هذه الحلول ارتجالية، لأن «إسرائيل» لم تكن لديها سياسة رصينة في ما يتعلق بهجرة غير اليهود. ولأن عدد الواصلين في تلك الفترة لم يكن كثيراً، لم يطور المسؤولون سياسة واضحة معهم، فكان الأمر لا يشكل أهمية تذكر. واستمرت «إسرائيل» في اتباع «سياسة اللا سياسة» مع طالبي اللجوء الأفارقة حتى عام 2000، إذ بدأت السياسة تجاههم تصبح انتقائية، وأحياناً كثيرة عشوائية، فمثلاً حصل 500 دارفوري على الإقامة، وغيرهم لم يحصل. وبضعة آلاف من الإريتريين حصلوا على إذن بالعمل، وعشرات الآلاف لم يسمح لهم بأخذ تأشيرات تؤهلهم للعمل». إلى يومنا هذا، تقول الكاتبة، الأغلبية الكبرى من طالبي اللجوء الأفارقة يحملون تأشيرات «إطلاق سراح مشروط» التي تتضمن عبارة «هذا التصريح ليس تصريح عمل»، فتتركهم السلطات أمام خيار العمل بطريقة غير شرعية. ووضعيتهم غير القانونية في العمل، وحاجتهم إلى المال تجعلهم عرضة للاستغلال، والقبول بأبخس الأجور.
وتشير الكاتبة أن المشكلة مضاعفة لهؤلاء اللاجئين الأفارقة، فهم يعيشون ويعملون بشكل غير قانوني، من جهة أجورهم رخيصة، ولا ينالون ما يكفي من المال، ومن جهة أخرى، إقاماتهم لا تؤهلهم لنيل حق اللجوء في أوروبا، أو الولايات المتحدة، أو كندا.
حملات القمع المستمرة
وفقاً لكل من الإعلام والحكومة «الإسرائيلية» كانت هناك حملتان كبيرتان من القمع بحق العمال الذين لا يحملون وثائق. بدأت الحملة الأولى في 2002 مع تشكيل إدارة الهجرة، وأجريت مع فرض قوة كاملة من 2003 إلى 2005، أما الحملة الثانية فقد بدأت في يوليو/تموز 2009، عندما اقتحمت وحدة من القوات الخاصة الشوارع. إلا أن الكاتبة تشير إلى أن هاتين الحملتين اللتين تفصل بينهما أربع سنوات، تعطيان انطباعاً أن أوضاع العمال المهاجرين كانت هادئة، وأنهم في حالة من الأمن والأمان. وتقول إن ما كان في الواقع هو العكس، فالعديد من المهاجرين أخبروها أن حالات قمعهم كانت في تزايد مستمر مع فرض ضغوط أكبر عليهم، حتى إن هذه السنوات الأربع شهدت حالات كثيرة من اقتحام الشقق في منتصف الليل، وتفتيش الأوراق، إلى درجة أن العديد منهم كانوا يلجؤون للنوم في السيارات خوفاً من إلقاء القبض عليهم.
وتظهر الكاتبة في عملها هذا فضائح الشرطة «الإسرائيلة» في التعامل مع اللاجئين الأفارقة الذين فروا من الحرب والأنظمة الديكتاتورية، إلى جحيم جديد اسمه «إسرائيل»، عانوا فيها الأمرّين، وشهدوا انتهاكات أفظع مما عاشوه في بلدانهم.. كل من التقتهم وحاورتهم الكاتبة وجدوا أن هذه الدولة التي تدعي أنها ديمقراطية مارست الإرهاب بحقهم.
نبذة عن الكاتبة والكتاب
مايا غوارنيري جرادات، صحفية وكاتبة قضت ما يقرب من عقد من الزمن تغطي الأحداث في «إسرائيل»، والأراضي الفلسطينية المحتلة. وقد نشرت أعمالها في عدد من المنافذ الأدبية والإعلامية، من بينها «ذا نيشن»، و«فورين بالسي»، و«الغارديان»، الجارديان، «بوسطن ريفيو»، وغيرها من الصحف والمجلات المهمة.
ويقع الكتاب في 276 صفحة من القطع المتوسط، عن دار «بلوتو برس» البريطانية باللغة الإنجليزية في ثمانية فصول وهي: 1) حضانات السوق السوداء. 2) الآخرون الجدد: العمال المهاجرون. 3) الموجة الثانية: «طوفان» من طالبي اللجوء الأفارقة. 4) «رئيسنا حمل كلابه إلى ملاجئ ضد القنابل لكنه تركنا في الحقول: العمال التايلانديون يقومون بالعمل العبري». 5) «نظيفة ومرتبة: أجانب في «إسرائيل» بعد عملية الرصاص المصبوب». 6) المدينة السوداء: المتسللون. 7) الفتيات اليهوديات للشعب اليهودي: الكنيست والمحكمة العليا. 8) اللاجئ الدارفوري الوحيد في «إسرائيل».

زر الذهاب إلى الأعلى