قضايا ودراسات

«إسرائيل» وسؤال ما بعد نتنياهو

د. محمد السعيد إدريس

أسئلة مهمة باتت تفرض نفسها على أوساط «إسرائيلية» كثيرة، يتركز معظمها حول مستقبل ما يمكن تسميته ب «العملية السياسية» في «إسرائيل»، وتعني مجمل تفاعلات الحكم من صراعات وتحالفات، على إدارة «إسرائيل» لملفات سياستها الخارجية، وفي مقدمتها الملف الفلسطيني، وملف العلاقات الإقليمية، سواء منها ما يعتبرونه «فتحاً غير مسبوق» في علاقات «إسرائيل» العربية أو ما يتعلق بالصراع مع إيران. الدافع لمثل هذه الأسئلة أمران مرتبطان ببعضهما، أولهما يتعلّق بالأزمات الداخلية التي تكاد تنهي وجود الحكومة الحالية، بل وتهدد المستقبل السياسي لرئيسها بنيامين نتنياهو، وثانيهما يخص المستقبل السياسي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب في ظل ما يواجهه هو الآخر من أزمات وصراعات وتحديات داخلية، بعضها يخص الاتهامات التي يمكن أن توجّه له من المحقق القضائي «روبرت موللر»، بخصوص الحملة الرئاسية التي فاز فيها والتدخل الروسي فيها، وهي اتهامات يصفها بعض النقاد بأنها «ستكون مدمرة للرئيس»، وبعضها الآخر يخص النجاحات التي حققها الديمقراطيون في انتخابات الكونجرس الأخيرة، التي أعطت للحزب الديمقراطي 225 مقعداً مقابل 197 مقعداً للجمهوريين، في حين احتفظ الحزب الجمهوري بالأغلبية في مجلس الشيوخ (51 مقعداً من أصل 100 مقعد)، وهي النتائج التي وصفتها سوزان رايس مستشارة الأمن القومي للرئيس باراك أوباما بأنها «دليل على أن أمريكا لم تفقد عقلها».
تطورات تحمل إيحاءات مهمة بأن الرئيس ترامب ربما لا يستطيع الفوز بفترة رئاسية ثانية، ما يعني أن بنيامين نتنياهو معرّض لأفدح الخسائر، نظراً لافتقاده المحتمل لحليفه الأساسي الذي بنى عليه معظم رهاناته ومخططاته السياسية.
معظم الأسئلة المثارة تتحدث عن تهديدات حقيقية تواجه المستقبل السياسي لنتنياهو إذا أخذنا في الاعتبار تصوّر المعارضة السياسية في «إسرائيل» وتقديراتها لمعركتها الانتخابية المقبلة ضد نتنياهو وحزب الليكود اليميني الحاكم. فقد وعدت تسيبي ليفني زعيمة المعارضة، وزيرة الخارجية السابقة بأن «تحدث ثورة» في مجمل العملية السياسية «الإسرائيلية».
مثل هذه الأسئلة والتوقعات لم تأت من فراغ، إذ لم يكد نتنياهو أن يتجاوز، ولو مؤقتاً، الأزمة التي وصفها بأنها طارئة وتتعلق باستقالة وزير الحرب أفيجدور ليبرمان وانسحاب حزبه (إسرائيل بيتنا) من الائتلاف الحاكم بزعم رفضه لقبول الحكومة هدنة جديدة في غزة، حتى ظهرت أزمات وتحديات أخرى أكثر خطورة، هي التي فرضت، في مجملها، مثل تلك التوقعات.
أول هذه التحديات يتعلق بالمأزق الذي يواجه نتنياهو إزاء الوعود التي قدّمها لشركائه في التحالف الحاكم للبقاء في الحكم بعد انسحاب حزب «إسرائيل بيتنا». كان كل من نفتالي بينيت وزير التربية وموشيه كحلون وزير المالية، وهما رئيسان لحزبين مهمين مشاركين في الائتلاف الحاكم، قد هدّدا بالانسحاب أيضاً عقب انسحاب ليبرمان، لكنهما تراجعا بعدما قدّم لهما نتنياهو وعوداً تتعلق بعزمه العمل على استعادة ما يسمى ب «القدرة على الردع». هذا الوعد يحمل معنيين مهمين لهما علاقة بموضوعنا، أولهما اعتراف واضح وصريح من نتنياهو بأن «إسرائيل» لم تعد تمتلك الآن القدرة على الردع عقب المعارك الأخيرة في غزة، وثانيهما أن نتنياهو عازم على استعادة هذه القدرة على الردع، ما يعني عزمه على شن هجوم ضد غزة يضع نهاية لما تفرضه من تهديدات وتحديات للأمن «الإسرائيلي».
وإذا أخذنا في الاعتبار أن نتنياهو يدرك مدى فداحة الخسائر العسكرية والبشرية والسياسية لمثل هذا الخيار وفقاً للنتائج الأخيرة لمعركة غزة التي وقعت شرق خان يونس، لتصوّرنا عمق المأزق الذي يواجهه بهذا الخصوص. فهو يحكم الآن بأغلبية صوت واحد، وإذا لم يف نتنياهو بوعوده لشركائه باستعادة القدرة على الردع، يمكن أن ينسحب هؤلاء الشركاء وتسقط الحكومة، وإذا تهوّر وشن عدواناً على قطاع غزة يمكن أيضاً أن تسقط الحكومة إذا فشل هذا العدوان، خصوصاً أن الرأي العام «الإسرائيلي» بات فاقداً الثقة في الطبقة السياسية الحاكمة.
الأزمة الثانية، أو التحدي الثاني، جاء من حيث كان يخشى نتنياهو أن يحدث في ظل هذه الظروف. فبعد شهرين من دراسة توصيات الشرطة، قرّرت المحامية «ليئات بن آرى» وهي المدعية التي ترافق التحقيقات الجنائية في ملفات شبهات الفساد ضده، تأييد توصيات دائرة مكافحة الفساد في الشرطة «الإسرائيلية»، وسلّمت بن آري توصياتها للمدعى العام شاي نيتسان، وتتضمن لائحة اتهام ضد رئيس الحكومة في مخالفة الرشوة في القضيتين 100 و200 وهي مخالفة خطرة، تعني وصمة عار تمنعه من تولي مسؤوليات حكومية رفيعة في حال ثبوتها قضائياً.
التحدي الثالث يأتي من داخل أروقة الحكم، سواء المعارضة أو حتى الائتلاف الحاكم. فالمعارضة اليسارية والوسطية تتجهان الآن للتحالف لإسقاط حكم الليكود حسب وعود كل من نفتالي بينيت وآفي غاباي زعيم حزب العمل المعارض، وتزداد أهمية هذا التحالف إذا أخذنا في الاعتبار عودة إيهود باراك رئيس الحكومة الأسبق إلى الأضواء والذي بدأ يلتقي بالمزيد من المعارضين في محاولة لتشكيل تحالف قوي، يهدف إلى فرض خيار انتخابات مبكرة وإسقاط حكم الليكود.
تهديدات وأزمات تتفاعل مع بعضها بعضاً، وتفرض على الجميع داخل الكيان سؤالاً: ماذا بعد سقوط نتنياهو؟

mohamed.alsaid.idries@gmail.com

زر الذهاب إلى الأعلى