جديد الكتب

«إمبراطورية» على طريق الحرير

تأليف: توم ميلر – عرض وترجمة: نضال إبراهيم
تحاول الصين تجاوز قرن من الخيبات، بالسعي إلى تحقيق حلمها الآسيوي في بناء إمبراطورية على طريق الحرير الجديد، وتحويل قوتها الاقتصادية إلى قوة جيوسياسية مؤثرة، تهيمن بداية على محيطها الآسيوي، ثم تمتد أبعد من ذلك. يحاول الكاتب في هذا العمل أن يقدم وجهة نظر عميقة من منظور جديد على واحد من أهم الأسئلة في عصرنا: ماذا يعني صعود الصين لمستقبل آسيا والعالم؟ وثم السؤال الذي يطرحه المراقبون: هل يمكن أن تدير الصين ظهرها لأزماتها الداخلية عبر التوجه نحو الخارج؟
قال الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابارت (1769 – 1821) ذات مرة عن الصين، «إن هذا البلد كأسد نائم. اتركوه نائماً، لأنه عندما يستيقظ سوف يهز العالم». وفي عام 2014، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ أن الأسد قد استيقظ في الواقع، و«الحلم الآسيوي للصين» أصبح شعاره الأبرز. وتحت قيادة شي جين بينغ سعت الصين إلى انتهاج سياسة خارجية طموحة على نحو متزايد بهدف استعادة الوضع التاريخي لها كقوة مهيمنة في آسيا.
كان الصحفي توم ميلر على أرض الواقع في آسيا يراقب ويشاهد كيف أن هذا الأمر بدأ يتكشف على مدى أكثر من عقد، وقدم ملاحظاته ومشاهداته في هذا العمل بشكل تحليلي ونقدي عميق في كيفية نمو الصين وقوتها الصاعدة سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي في الساحة الآسيوية والعالمية أيضاً، خاصة أنه يرأس تحرير مجلة فصلية عن الصين، وكان مراسل بكين السابق لصحيفة «ساوث جاينا» و«مورنينج بوست». وله كتاب آخر مهم بعنوان «المليار المتحضر في الصين: قصة الهجرة الأكبر في تاريخ البشرية» وطبعه عام 2012 في دار «زد بوكس».

تطويق الجوار

يبين ميلر كيف أن الصين بدءاً من حوض نهر ميكونغ (أطول سابع نهر في آسيا) إلى سهوب آسيا الوسطى، تغري جيرانها بوعود بناء الطرق الجديدة والسكك الحديدية وتشييد السدود، وإقامة شبكات الكهرباء. فضلاً عن أن التجارة والاستثمار الصينيين يقدمان فرصاً هائلة لهذه الدول، وقدرتها على بناء البنية التحتية التي تشتد الحاجة إليها، يمكن أن تساعد على تطوير بعض من أفقر البلدان في العالم. ويهدد صعود الصين أيضاً باستغلال ضعف جيرانها وجعلهم يعتمدون كلياً على الموارد الصينية.
في فيتنام وميانمار، كما يوضح ميلر، هناك استياء من زحف الصين الكبير الذي أدى في الحقيقة إلى خروج احتجاجات مناهضة للصين، والعديد من البلدان في المنطقة الآسيوية تسعى لخلق حالة من التوازن في وجه النفوذ الصيني، من خلال اللجوء إلى الولايات المتحدة أو اليابان.
يأتي هذا العمل الصادر حديثاً في 256 صفحة من القطع المتوسط عن دار «زِد بوكس» البريطانية باللغة الإنجليزية. وبعد المقدمة يأتي في ستة أقسام هي: أولاً: حزام واحد، طريق واحد: تمويل طريق الحرير الجديد، ويتضمن الفصول التالية: مبادرة الحزام والطريق، والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، وسباق التسلح في آسيا. ثانياً: الزحف غرباً: اقتصادات الطاقة في آسيا الوسطى، ويشمل الفصول: شينجيانغ، وآسيا الوسطى، وروسيا. ثالثاً: في حرارة الشمس: النهوض من أسفل نهر ميكونغ، ويحتوي على الفصلين التاليين: لاوس، وكمبوديا. أما القسم الرابع فهو بعنوان: كاليفورنيا تحلم (عنوان أغنية شهيرة غناها باري مكوير وأصبحت شعاراً لكاليفورنيا): كيف «فقدت» الصين ميانمار، ويحتوي على: البوابة إلى خليج البنغال، والقسم الخامس بعنوان: سلسلة من اللآلئ: الخوف والبغض في المحيط الهندي، ويضم: المحيط الهندي، وباكستان، والهند، وسيريلانكا. والقسم السادس بعنوان: المياه النارية: وضع خريطة لبحر الصين الجنوبي، ويتضمن: فيتنام. وينهي الكاتب عمله بخاتمة.


استعادة المجد الصيني

يشير الكاتب إلى أن «الحكم الصيني» مرتبط عن قرب مع القوة العسكرية، وللوصول إلى حالة التجدد والانتعاش الكبير للأمة الصينية، أعلن الرئيس الصيني شي جين بينغ في وقت قصير من تسلمه رئاسة الحزب الشيوعي الحاكم قائلاً: «يجب علينا أن نحافظ على الصلة بين تأسيس دولة غنية وجيش قوي، ونكافح من أجل بناء دفاع قومي متماسك». ويعلق الكاتب: «بالتالي السعي إلى»الثروة والقوة» كان اللازمة الدائمة بين المثقفين والقادة السياسيين في الصين منذ القرن التاسع عشر. واختزلت الصين الأمر في»إثراء الدولة ودعم القوة العسكرية»، وهي عبارة تعود إلى أكثر من ألفي سنة إلى حقبة الممالك المتحاربة من التاريخ الصيني، والتي مهدت الطريق لإمبراطورية صينية موحدة».
يقول الكاتب: «في مصطلحات اليوم، التطور الاقتصادي مطلوب لتأسيس دولة غنية من شأنها أن تمكّن الشعب الصيني وتدفع حضارته العريقة إلى الازدهار. والاقتصاد القوي سوف يدفع إلى جيش قوي مطلوب للدفاع عن النفس. بالتالي فإن الصين، لن تتعرض أبداً للغزو والاحتلال».
ويضيف: «كما أن القوة العسكرية مطلوبة لإضفاء الشرعية على الحزب الشيوعي الذي يعتبر المدافع الرئيسي عن البلاد. والآلة الدعائية للحزب تعوّل بشكل منظم على الجرح التاريخي للخيبات القومية بهدف دعم الهوية القومية حول دورها الخاص في بناء»دولة غنية وجيش قوي». والرسالة هي أن الحزب يسعى إلى العمل على ذلك كما لو أنه يستطيع أن يعيد للصين عظمتها. كان ذلك المنطق من وراء العرض العسكري المهيب الذي جرى في بكين في سبتمبر/أيلول 2015، حيث كان بشكل ظاهري لإحياء الذكرى السنوية السبعين للانتصار على اليابان. إلا أن الكتائب الزاحفة للجنود والصفوف الهادرة من الدبابات – ظهرت على شاشات التلفزة في كل أنحاء العالم – كانت في الحقيقة علامة على الشعور بعدم الأمان، إذ إن الدول الواثقة من نفسها بشكل فعلي لا ينبغي عليها أن تظهر قوتها العسكرية. ومع ذلك احتاجت القيادة الصينية إلى إظهار صورة عن قوتها، بهدف دعم نفسها داخلياً، وتخويف الأعداء في الخارج، خاصة الولايات المتحدة واليابان».

سياسة خارجية جديدة

ويوضح ميلر أن سعي الصين إلى المجد القومي، مع الوجود العميق للشعور بعدم الأمان، يدفعها إلى اتباع سياسة خارجية تبرز فيها عضلاتها بشكل أكبر، مضيفاً: «قبل ثلاثين سنة، كان الحزب الشيوعي الصيني لا يزال يدعو إلى الإيديولوجية الشيوعية لدعم سلطته كحزب حاكم. لكن على النقيض من ذلك، يتطلب المنطق القومي» للحلم الصيني» إظهار الصين قوتها في الخارج. والشعب الصيني التهم بشغف موكب الانتصار العسكري، حتى إنه أرسل اختلاجاته إلى كل آسيا».
وعن العلاقات الدولية للصين يستشهد ميلر بأحد المفكرين الصينيين البارزين، من دون أن يذكر اسمه، مقتبساً قوله: «نقص الثقة في العلاقات الداخلية يعني أنه يترتب عليك أن تكون حازماً جداً في الخارج بهدف توحيد البلاد حول القومية – لكني لا أستطيع قول ذلك بشكل علني».
ويعلق الكاتب أن هذا يشكل تغيراً أساسياً في سياسة الصين الخارجية. فالرئيس الصيني السابق دينغ شياو بينغ الذي حكم من 1978 إلى 1992، قدم نصيحة يقول فيها إنه على الصين أن تتقلص في سياستها الخارجية، وتركز على بيتها الداخلي وترتبه على نحو مناسب. أما الرئيس الصيني الحالي شي جين بينغ تخلى عن هذا النهج المتواضع في السياسة الصينية. وكانت الإشارات بشأن هذه السياسة ظاهرة، حتى قبل اعتلائه السلطة، فخلال رحلة إلى واشنطن كنائب للرئيس، دعا إلى «نموذج جديد لعلاقات القوى الكبرى». وما أن خلف هو جينتاو، أعلن شي جين بينغ أن الصين سوف تلعب دوراً «استباقياً» في آسيا. وهذه العبارة تشير في الحقيقة إلى أن نهج دينغ قد تم التخلي عنه. ومنذ ذلك الحين، وضعت الصين «دبلوماسية الجوار» أولوية لها، وبدأت بتشكيل سياسات متماسكة لتترجم ثقلها الاقتصادي إلى قيادة إقليمية.
يرى توم ميلر أن عضلات الصين الجيوسياسية تنمو بشكل تدريجي – بعض الأحيان بشكل عشوائي – لتتماشى مع قوتها الاقتصادية. فالصين وفقاً للعالم السياسي البارز ديفيد شامبوه، كانت لفترة طويلة «قوة وحيدة»، تفتقر إلى أصدقاء مقربين، ولا تمتلك أي حلفاء لها.
صحيح أنه بعد نصيحة دينغ، لم تحشر بكين أنفها في شؤون الدول الأخرى، وسعت إلى ممارسة سياسة خارجية قائمة على عدم التدخل وعدم الانحياز. لكن، تتطلب السياسة الخارجية للرئيس شي جين بينغ العمل عن قرب مع الدول الأخرى. فبكين لا تسعى إلى بناء هيكل تحالف رسمي، بل كما أعلن الرئيس الصيني عن نواياه في «صنع أصدقاء أكثر»، وتشكيل «تجمع المصير المشترك» في آسيا. والهدف هو تشكيل شبكة غير رسمية من التحالفات يحركها النقد الصيني. وذلك مع اعتماد جيرانها عليها من الناحية الاقتصادية، بالتالي تعتقد الصين أن نفوذها الجيوسياسي سوف يقوى على نحو أكثر.
يقول ميلر: «عضلات الصين الجيوسياسية تنمو بشكل تدريجي – بعض الأحيان بشكل عشوائي لتتماشى مع قوتها الاقتصادية. وهذا لا يعني أن الصين تريد أن تحل مكان الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم، بل يعني أنه لا بد من الهيمنة على آسيا عبر حديقتها الخلفية. وبعد «قرن من الإذلال»، فقط هذا «الحلم الآسيوي» يمكن أن يعيد للصين كرامتها واحترامها لذاتها. بالنسبة للصين، هي رؤية مجيدة، ولها عواقب هائلة على مستقبل آسيا.

الدور الاستباقي

لكي تتمكن الصين من تفعيل «الدور الاستباقي» في سياستها الخارجية، يجد الكاتب أنه على الصين في المقام الأول أن تشحّم إطارات التجارة والاستثمار. فصعود الصين في آسيا قائم على حقيقة بسيطة وهي: اقتصادها الهائل، الذي بلغ 10.9 تريليون دولار أمريكي في 2015، وهو أكبر من اقتصاد دول شرق وجنوب شرق آسيا مجتمعة. ويقول: «هذا المحرك الهائل قاد إلى التطور الإقليمي، على الأقل، لربع قرن. فالصين أكبر شريك تجاري لأغلب الدول في آسيا، من بينها تقريباً أغلب الدول في محيطها. وهذا يمنحها قوة اقتصادية هائلة».
ويشير إلى أن الهدف الثاني للصين هو تعزيز الاستثمار الإقليمي، والذي لا يعني مع ذلك الهيمنة. في جنوب شرق آسيا، على سبيل المثال، الاتحاد الأوروبي واليابان يساهمان أكثر. وهذا يعتبر أمراً مخيباً لها، حيث إن «مبادرة الطريق والحزام» والمعروفة أيضاً ب«حزام واحد، طريق واحد» أو«طريق الحرير الجديد» مصممة للمصادقة على مسألة الاستثمار. وهذه المبادرة تهدف إلى تحسين التواصل مع آسيا وما بعدها، عبر خلق ممرات في آسيا الوسطى والشرق الأوسط للوصول إلى أوروبا.
يذكر الكاتب أن دبلوماسية الصين تهدف إلى تحسين التواصل مع الدول المجاورة. فعلى الحدود مع كازاخستان، تصبح البلدة الصغيرة خوغوس في شينجيانغ مركزاً للتوزيع لآسيا الوسطى، مع سكك حديدية وطرق جديدة من العاصمة الإقليمية أورومقي إلى ألماتي، أكبر مدن كازاخستان، وصولاً إلى إيران.
كما أن ارتباطات طرق القطارات إلى أوروبا، تبدأ من كازاخستان. وإلى الجنوب تتم إعادة تأسيس كاشغار كبوابة إقليمية، والتي تعد أكثر الأسواق نشاطاً على طريق الحرير القديم. كما أن الشركات الصينية بنت طرقاً إلى قيرغيزستان وطاجيكستان، وهناك خطط لمد طرق إلى باكستان وأوزباكستان وما بعدهما.
يتناول الكاتب بحكم خبرته في السياسة الصينية جميع الجوانب المتعلقة بالصعود الصيني نحو تحقيق حلمها الآسيوي، إلا أننا نقرأ شكوكاً لديه في السياسات الصينية، كون البيت الداخلي يعاني مشكلات حقيقية يمكن أن تؤثر في نهجها السياسي والاقتصادي، وبالتالي في علاقاتها المستقبلية مع دول الجوار والعالم، ما قد يخلق عوائق أمام بناء إمبراطوريتها المنشودة على طريق الحرير الجديد، خاصة أن الولايات المتحدة تعزز نفوذها في آسيا مقابل تقليصه في أماكن أخرى من العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى