استطلاع رأي فلسطيني يكشف حقائق عن الأزمة
من المقطوع به يقيناً أن من طبائع الحروب إحداث تحولات عميقة في المواقف والاتجاهات السياسية عند الإنسان. وهذا ما ظهر جلياً في دراسة مسحية للمركز الفلسطيني للبحوث السياسية الذي أجرى استطلاعاً للرأي العام الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك بالتعاون مع مؤسسة «كونراد أديناور» في رام الله، في الفترة ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) وديسمبر (كانون الأول) لعام 2023، في أثناء فترة وقف إطلاق النار من أجل تبادل الأسرى بين حركة «حماس» وحكومة الكيان الصهيوني. وقد بلغ حجم العينة المستهدفة في هذا الاستطلاع 1232 فلسطينياً منهم 750 في الضفة و481 في قطاع غزة.
وأهم ما يلفت الانتباه في مخرجات ونتائج هذا الاستطلاع هو التباين الواضح في المواقف والاتجاهات السياسية بين سكان قطاع غزة والضفة الغربية حول الكثير من القضايا السياسية. وربما التفسير الراجح للفروقات الواسعة في الرأي العام بين أهالي الضفة وقطاع غزة يعود جزئياً إلى طبيعة المجزرة الجماعية المرتكَبة بحق أهالي قطاع غزة التي أنتجت منطقاً ووجهات نظر أكثر موضوعية من سكان الضفة الغربية. أما أهالي الضفة وإن كانوا يعيشون خارج نطاق جرائم الحرب الجماعية، فإن هامش حركتهم ما زال مقيداً ومحدوداً بسبب إغلاق جيش الاحتلال مداخل معظم المدن والبلدات فيها. ومن البدهيّات العقلية أن الأبرياء الذين يرزحون تحت وطأة الإبادة الجماعية والقصف العشوائي للأحياء السكنية والمستشفيات والمدارس دائماً ما يفكرون بالمنطق الثنائي للحياة والموت والبحث عن الخلاص واستكشاف الحلول المتاحة لإنقاذ أنفسهم وأطفالهم وذويهم. فثلثا المستطلعين في غزة (64 في المائة) كانوا قد فقدوا أحد أفراد أسرهم ما بين قتيل وجريح، وهي النسبة الدموية المستمرة التي تنزف في ازدياد كل يوم بعد كتابة هذا المسح الميداني بكل تأكيد. وهو الحال الذي انعكس على المواقف السياسية لأهل قطاع غزة الذي كانوا أقل تشدداً في كثير من المواقف العامة وأكثر لوماً وانتقاداً موضوعياً لقيادته ورموزه السياسية من أهالي الضفة الغربية.
فوفقاً لهذا الاستطلاع، أجاب 82 في المائة من سكان الضفة بأن هجوم السابع من أكتوبر (تشرين الأول) كان صحيحاً، في حين أيّده 57 في المائة من أهالي القطاع. وهذا التباين في الرأي انعكس أيضاً حول الموقف من شرعية «حماس». فوفقاً للدراسة الميدانية فإن نسبة التأييد لحركة «حماس» ارتفعت أكثر من ثلاث مرات في الضفة مقارنةً بالوضع قبل ثلاثة أشهر من الحرب، ولكنها ارتفعت بشكل أقل ومحدود في قطاع غزة. فنسبة الذين صوّتوا برضا واستحسان لأداء حركة «حماس» بين أهالي الضفة وصلت إلى أغلبية ساحقة بما نسبته 85 في المائة، في حين أنها بالكاد تصل إلى النصف بين سكان قطاع غزة بنسبة 52 في المائة. وقد انعكس هذا الموقف المتباين أيضاً من حيث لوم «حماس» على الأزمة الراهنة. ففي حين ألقى ثلث سكان غزة اللوم على «حماس» في نتائج هذه الحرب المأساوية، فإن 6 في المائة فقط من أهالي الضفة وضعوا اللوم على «حماس»، وإن كانت الغالبية من المستجوبين من الجانبين وضعوا كامل اللوم في المقام الأول والأخير على إسرائيل، وهم محقّون في ذلك. وفي المقابل، انخفضت شعبية حركة «فتح» في الضفة الغربية بشكل كبير، إذ طالب 90 في المائة من المستطلعين من أهل الضفة باستقالة الرئيس محمود عباس، في حين لم تتجاوز المطالبة باستقالته 81 في المائة في قطاع غزة.
وفي نفس سياق التصويت حول النخبة الفلسطينية، نجد أن التفاوت بين المستطلعين كان واضحاً حول قيادات «حماس»، إذ انخفضت شعبيتها بين أهالي القطاع مقارنةً بسكان الضفة الغربية، وهو ما يشير إلى أن الحرب ربما دفعت سكان غزة إلى أن يكونوا أكثر ميلاً لمحاسبة قيادتها السياسية. فعلى الرغم من أن شعبية هنية وصلت بين المستطلعين في الضفة إلى 57 في المائة فإنها انخفضت بين سكان غزة إلى 43 في المائة. والمفارقة الكبرى أن شعبية يحيى السنوار التي وصلت إلى 81 في المائة بين المستجوبين في الضفة، لم تتجاوز 52 في المائة بين أهالي القطاع. وأبرز ما يثير الدهشة في هذا الاستطلاع أن الشعبية الكاسحة التي أجمع عليها كل المستطلعين بالضفة والقطاع معاً لم تذهب إلى أحد القيادات السياسية والعسكرية لـ«حماس» أو المباشرين للسلطة الفلسطينية القائمة كمحمود عباس ومحمد أشتية، بل كانت من نصيب مروان البرغوثي، وهو أحد قياديي «فتح»، والمعتقل في السجون الإسرائيلية منذ الانتفاضة الثانية في عام 2002.
ويتّسق انخفاض شعبية القيادات السياسية والعسكرية بين أهالي غزة مع موقفهم حيال الحل الأمثل لإنهاء الاحتلال، وما إذا كان هذا الحل من الممكن أن يتم عن طريق استخدام العنف المسلح، أو إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فحسب الدراسة فإنه على الرغم من أن المستطلعة آراؤهم في الضفة والقطاع يُجمِعُون على أن العمل المسلح هو الطريق المثلى لإنهاء الاحتلال، فإن نسب الزيادة كانت أكبر بين أهالي الضفة الغربية مقارنةً بقطاع غزة، إذ أيَّد 56 في المائة من المستجوبين في القطاع استخدام العنف المسلح، ولكنها زادت باثنتي عشرة درجة مئوية عند أفراد العينة في الضفة الغربية بنسبة 68 في المائة. ومن جهة أخرى تعتقد الغالبية العظمى من الجانبين بنسبة 70 في المائة أن حل الدولتين غير جدّي بسبب التوسع الاستيطاني الإسرائيلي والموقف الأميركي المتخاذل، على الرغم من أن تأييد حل الدولتين ارتفع بهامش بسيط من 30 في المائة إلى 33 في المائة في الضفة، وبهامش أكبر وإن كان بسيطاً أيضاً في قطاع غزة من 34 في المائة إلى 35 في المائة.
طبعاً احتوت الدراسة على أسئلة سياسية أخرى كثيرة تتعلق، على سبيل المثال لا الحصر، بالمواقف من الدول الكبرى والإقليمية، والمنظمات الدولية، والأحزاب والميليشيات العسكرية في المنطقة، والدور الإيراني في هجوم السابع من أكتوبر. وقد شهدت الإجابات أيضاً تفاوتاً واختلافاً بين المستطلعة آراؤهم في الضفة والقطاع. ومع ذلك ستظل هذه الآراء والاتجاهات السياسية مرهونة بسياق الأزمة الكبرى الراهنة، ومن الخطأ فصلها عن معطيات هذه اللحظة التاريخية المؤلمة. بل من الممكن أن تتغير هذه الاتجاهات السياسية بشكل كلّي في حال تغيَّرت الشروط الموضوعية لبنية الاحتلال الإسرائيلي الغاشم الذي أنتج مزيداً من الكراهية والرغبة في الانتقام والثأر، والكثير من التعقيدات الاقتصادية والتحيزات السياسية والاجتماعية عند الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة والعالم.
صفوة القول إن هذه الدراسة الميدانية اعتراها بعض القصور في الإجراءات المنهجية المرتبطة بالحجم المتباين للمجتمع الأصلي للدراسة، أو توزيع وتقسيم فئات أفراد العينة، أو نوعية وطبيعة أسئلة استطلاع الرأي العام التي تجاهلت تأثير دور الإعلام في تشكيل التوجهات والمواقف السياسية، أو القوى المسؤولة عن الانقسام الفلسطيني، أو الاتجاهات العامة حيال اتفاقية أوسلو، وغيرها من الأسئلة الأخرى الجوهرية. ولكن رغم تلك العيوب المنهجية في الدراسة، فإن نتائجها توحي بأن منطق التفكير الإنساني تحت ضغط الحرب الفتاكة، وأزمة الوجود المعلقة بين خيار الموت والحياة، عادةً ما ينطوي على تساؤلات ذاتية ومراجعات نقدية حول الخيارات التي صنعها الفرد، والقرارات التي اتخذها حينما كان يعيش في مجتمع مستقر نسبياً. والأكثر أهمية من ذلك أن مخرجات الاستطلاع قد تساعدنا على التنبؤ بأن هناك احتقاناً فلسطينياً وعربياً وإسلامياً مكبوتاً ربما يُفضي في المستقبل إلى انفجار مدوٍّ على شكل مزيد من حالات العنف على صعيد الداخل الفلسطيني أو على مستوى السياسات الدولية، أو ربما يقود إلى انبثاق انتفاضة فلسطينية ثالثة، وحدوث تحولات جوهرية في بنية السلطة الفلسطينية، ما لم تُتخذ تدابير وحلول سياسية فعالة على المستوى الإقليمي والدولي مرهونة بخلق أفق جديد من الأمل والحلم للأجيال الجديدة القادمة.
*نقلا عن الشرق الأوسط