مقالات عامة

الاحتراف في عين الدماغ

عبد اللطيف الزبيدي

كيف يتجسد الاحتراف في الدماغ؟ ما هي التحولات التي تحدث فيه عندما يكون الشخص قد أصبح محترفاً؟ ثمة نموذجان، أحدهما يصل إلى الأستاذية، والآخر يتجاوزه إلى الإبداع. الأول خبير، والآخر مبدع. الأخير ليس محورنا لأن المقاييس في شأنه زئبقية.
نحن لا ننظر إلى الإنسان عادة كجهاز يحركه حاسوب عملاق قادر على إنتاج الخيال الذي يراه أينشتين أهم من العلم، وهو محق لأن الخيال ينتج العلم لا العكس. العلم عنصر مساعد للخيال. الآدمي جهاز متطور على نحو نجومي المقاييس، والتأهيل المستمر من خلال التجارب التي تتبلور باكتشاف الأخطاء وتصحيحها، هو الذي يراكم الخبرة بتكييف أداء الدماغ وتوجيه وظائف الخلايا العصبية وتشابكاتها في اتجاه معين، نطلق عليه كلمة احتراف.
مشهد رائع لما يجري في الكتلة التي تسكن قمرة القيادة في جسم الإنسان، خصصت له مجلة «العلم والحياة» الفرنسية مقالاً (27 فبراير/‏شباط) تحت عنوان: «هل تُغير مهنتنا دماغنا؟» هذا هو ما يحدث بالضبط.
كل مهنة أو حرفة أو وظيفة، تتطلب تحفيز مراكز معينة من كتلة المخ، وهذه تختلف وتتفاوت كماً ونوعية طبقاً لاختلاف العمل. المهندس العماري غير جراح القلب، وهذان ليسا كالعازف والإعلامي والأستاذ الدولي في الشطرنج، وهؤلاء غير مدقق الحسابات وراقصة الباليه وكبير الطهاة ومحترف كرة القدم أو التمثيل. طريق الوصول إلى الاحتراف تنطبق عليه طرفة العالم الفيزيائي نيلز بوهر: «الخبير هو الشخص الذي يكون قد ارتكب كل الأخطاء التي يمكن الوقوع فيها في مجال محدود».
عبارتنا الظريفة: «اسأل المجرب وما تسألش طبيب» سليمة، لأن المجرب عثر في ألف حفرة، ولُدغ من ألف جحر مختلف، سوى أن خبرته لا تجعله يلدغ من جحر مرتين.
ذلك التأهيل المستمر ومراكمة الخبرة، يشكلان بمرور الزمن فرقة عمل من خلايا عصبية معينة وتشابكاتها، تهب معاً متكاملة لأداء الوظائف التي تتطلبها الوظيفة، إلى حد ظهور معالم محددة لها في غشاء الدماغ.
عند بلوغ الاحتراف تكون تلك المناطق والمراكز قد اكتسبت كل الشروط والعدة والعتاد، التي تتلخص في الاحتراف: سرعة الاستجابة مع الإلمام والدقة وسعة المخزون في سبيل الأداء الحسن ومعالجة الأخطاء. بلغة المعلوماتية، يمكن أن نشبه الاحتراف التخصصي بأنه برمجية (سوفتوير) ضمن نظام التشغيل، يتولى الدماغ تحديثها على مر السنين عبر اكتشاف ثغراتها وتصحيحها.
لزوم ما يلزم: النتيجة الإبداعية: الأستاذية المحترفة لا تعني الإبداع بالضرورة، ولا الأخير يعني الأستاذية الخبيرة بالميدان.

abuzzabaed@gmail.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى