الاستيطان والمشروع «الإسرائيلي»
نبيل سالم
منذ بدايات المشروع الصهيوني، وعمليات الهجرة والتهجير التي قامت بها الحركة الصهيونية، لليهود إلى فلسطين، والتي تعود عملياً إلى مطلع الثمانينات من القرن التاسع عشر، وبدايات ما عرف ب «اليشوف»، اعتمدت بشكل أساسي على فكرة الاستيطان، لإقامة وجود عنصري صهيوني في فلسطين، مستغلة بعض الأحداث التي شهدتها أوروبا والتي وصلت ذروتها في عام 1881 بوقوع ثماني مجازر ضد اليهود ولا سيما مذبحة يالطا في عام 1882 التي أدت إلى مقتل أربعين يهودياً حسب المصادر الصهيونية، حيث أخذ الصهاينة يستغلون هذه الأحداث التاريخية التي تعد جزءاً من الصراعات التي كانت تعيشها أوروبا في ذلك الوقت، من أجل رسم معالم مشروعهم، القائم على الأفكار التوراتية، لجذب أكبر عدد من اليهود، حيث أدت هذه الأحداث إلى هجرة أربعين ألف يهودي، توجه ثلاثة آلاف منهم فقط إلى فلسطين.
ومنذ ذلك التاريخ اعتمدت الحركة الصهيونية على المذابح لجعلها المبرر المنطقي لهجرة اليهود الأوروبيين إلى فلسطين والاستيطان فيها، ضمن مخطط طويل الأمد، استند بالأساس على المبرر الديني الذي يشرع «العودة» إلى فلسطين حسب المنطق العنصري، سواء كان هناك اضطهاد لليهود أم لا.
حيث ركزت الدعاية الصهيونية في ذلك الوقت على وجوب عودة ما أسمته «الشعب اليهودي» إلى بلده الأصلي لإعادة بناء بلد آبائه، واعتبار أن ذهاب اليهود إلى فلسطين ليس هجرة وإنما عودة إلى الوطن الأم، استناداً إلى تفسيرات دينية، فصلت بعناية لتتناسب والأهداف الصهيونية المبكرة لاحتلال فلسطين.
هذه المقدمة التاريخية كان لا بد منها لتفسير ما أعلنه وزير الاستيطان «الاسرائيلي» يوأف غلانت مؤخراً بأن الاستيطان اليهودي في الجليل مهم لمناعة وأمن «إسرائيل»، وذلك خلال تصريح عقب فيه على القرار بعدم توسيع مدينة طمرة على حساب مستوطنة «تسفي أڤيڤ» على حد قوله، حيث قال حرفياً: «الاستيطان اليهودي بالجليل مهم لمناعة وأمن «إسرائيل»، أنا ضد تطوير خطة تضرّ بهذا الاستيطان، مراكز الاستيطان اليهودي يجب أن تقوى وتتوسّع، ونحن نعمل بقوة لإيجاد حلول إسكان وجودة حياة للمواطنين العرب.» ما دفع بالنائب العربي في «الكنيست» أيمن عودة رئيس القائمة المشتركة إلى قوله: إن «إسرائيل» دولة يهودية وديموجرافية، وليست يهودية وديمقراطية! وهذه الحكومة الأكثر يمينية تمارس عمليًا «قانون القومية» بهذا النموذج وغيره.
مؤكداً أن للجليل أهلاً راسخين فيه، سيعمرونه أكثر وأكثر رغماً عن أنف غلانت وكل الممارسات العنصرية، وطالب عودة بطرح هذا الموضوع على جدول أعمال «الكنيست» تحت عنوان («إسرائيل» دولة يهودية وديموجرافية).
والحقيقة أن هذه الحادثة تعيدنا في الواقع إلى أهمية الاستيطان اليهودي، بالنسبة للمشروع الصهيوني، القائم على أبشع أنواع العنصرية ضد العرب، والتي نراها بوضوح في معظم أعمال الكتاب والمفكرين الصهاينة، الذين يزعمون أن «العودة» إلى «إسرائيل» لم تكن مفروشة بالورود، وإنما جاءت ملأى بالأشواك والإحباط، ف «الأرض خربة قاسية وعلى اليهود أن يعيدوا إليها الحياة، يهددهم من خلف الجبال العرب المجرمون، كما يحلو للعقلية الصهيونية أن تقول عندما تصف العرب».
ولعل في هذه الأمثلة التاريخية، وحملة الاستيطان الصهيوني السرطانية في الأراضي الفلسطينية المغتصبة، ولا سيما بعد توقيع اتفاق أوسلو، ما يبرهن بشكل لا يقبل مجالاً للشك على أن الاحتلال الصهيوني لا يمكن أن يسقط شهوته للاستيطان، تحت أي ظرف من الظروف، وأنه كلما قدم العرب من تنازلات لهذا الاحتلال العنصري الاستيطاني الإجلائي الاستعماري، بحجة البحث عن السلام، أوغل الصهاينة في التهام المزيد من الأراضي العربية وتوسيع استيطانهم على حسابها، تحت ذرائع وحجج مختلفة، تتراوح بين الذرائع الدينية، التي قام عليها المشروع الصهيوني، أو الذرائع الأمنية التي درج الصهاينة على ترديدها مؤخراً، كما هو الحال في تصريح وزير الاستيطان يوأف غلانت بأن «الاستيطان اليهودي في الجليل مهم لمناعة وأمن «إسرائيل»».
وأخيراً لا بد من القول إن أي عملية سلام تبدو مستحيلة مع هذا النوع من الاحتلال، لأنه يقوم بالأساس على فكرة إلغاء الآخر، وأن الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الاحتلال الصهيوني، يجب أن تكون من خلال تمسك الشعب العربي الفلسطيني بأرضه، ومواجهة كل ألوان الاستيطان، التي تمثل العنصر الأهم في استمرار هذه الآفة الاستعمارية في المنطقة.
ومن يراهن على السلام مع الصهاينة، يبدو كمن يراهن على ملء الغربال بالماء، أو حجب الشمس به، وفي الحالتين إنه عقم فكري وقصر نظر كبير.
nabil_salem.1954@yahoo.com