التأثير الإعلامي لا يزال للتلفزيون والصحيفة الورقية
يتميز هذا الكتاب من حيث الموضوع بأنه مخصص لدراسة العلاقة بين اتجاهات الرأي العام وبين واقع ومسارات ومآلات التحولات الديمقراطية التي شهدتها السنوات الخمس عشر الأخيرة في أقطار متباينة من عالمنا من حيث الأوضاع السياسية والأنساق الثقافية والمنظورات التي تصدر عنها جماهير الرأي العام على صعيدها.
وقد أدى هذا المنحى الذي اتبعه الثلاثي من العلماء الاختصاصيين، وهم مؤلفو هذا الكتاب، إلى رصد الإيجابيات التي نجمت عن التحولات الديمقراطية في الفترة آنفة الذكر وقد تجسدت فيما ظل يُعرف عند مجامع أوروبا بأنه الثورات الملونة، فضلاً عما كان يعرف في الشرق الأوسط بأنه ظاهرة »الربيع العربي« بكل ما انطوت عليه هذه التحولات من إيجابيات وسلبيات.
كما تتميز فصول الكتاب بأنها لم تأت كمجرد محصلة لعمليات السرد المعهود في الدراسات البحثية المعتادة، بقدر ما جاءت نتيجة دراسات تجريبية وبحوث ميدانية استخدمت عينات مدروسة علمياً من جماهير الرأي العام في الأقطار المختلفة التي كانت موضعاً لبحوث الكتاب.
ومن ثم فقد خلص الباحثون إلى أنه رغم العديد من السلبيات، وربما الإحباطات التي أحدقت بحالات التحول الديمقراطي في تلك المواضع من خارطة عالمنا، إلا أن القطاع الأغلب من الرأي العام في تلك الأرجاء لايزال متمسكاً بالرؤى الديمقراطية، بوصفها الأصلح في الحاضر والمستقبل.
في معاجم العلوم السياسية ثمة موقع في الصدارة مازال يشغله المصطلح المتداول الشهير: »ديموس«، ويرجع في أصله اليوناني إلى معنى الناس، الجماهير، جموع الأفراد العاديين. هؤلاء الناس كانوا يجتمعون كما تقول الحوليات الإغريقية- في مكان يعرفونه باسم »الفُوَرم« أو ساحة السوق، في قلب عواصمهم القديمة..
وفي مقدمتها بالطبع كل من أثينا وإسبرطه. وفي هذه المواقع كانوا يتداولون فيما بينهم ما يعرض لهم من مشكلات وقضايا. ومن هذه المشاهد والسلوكيات نبع المصطلح الأشهر الذي يدور حول »الديمقراطية الأثينية«.
وكم تحكي تواريخ الشعوب والحضارات عن تلك المواقع أو المشاهد التي ظلت تضم هذه الممارسات العمومية التي يشارك فيها جموع الأفراد: ما بين المسجد الجامع في صدر الإسلام، حيث كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، يتشارك مع الناس في أمور الخلافة.
وقد عادت حكاية الديمقراطية حكم الناس (ديموس كراسوس) كما يقول أصلها اللاتيني – إلى حيث بدأت تفرض نفسها على مقاليد السلطة وأساليب إدارة الحكم، وخاصة مع تطور ونضج الطبقات التي اشتغلت بفنون إبداع وإنتاج الصناعات اليدوية ومن ثم طرحها وتداولها في الأسواق، حيث نضجت في هذا الإطار طبقات التجار في مجتمع ما بعد العصور الوسطى في أوروبا.
شروق الديمقراطية
في غمار هذه الظروف بدأت تباشير الديمقراطية في أشكالها المحدَثة وتجسدت إرهاصاتها البارزة فيما شهده عام 1215 للميلاد بالذات في إنجلترا: العام الذي صدرت فيه الوثيقة التي لاتزال تحمل في تاريخ التقدم السياسي الإنساني اسمها المعروف: العهد الميثاق الأعظم (ماغنا كارتا).
رجل من غمار الشعب
بعدها انفتح الطريق أمام إضافات واجتهادات وتوسعات كانت كلها لصالح أوسع قطاعات الجماهير، تلك القطاعات التي وصفتها منذ نحو 50 عاماً كلمات الشاعر المصري الراحل صلاح عبدالصبور على لسان أبي منصور الحلاج في المسرحية الشعرية الشهيرة، حيث وصف الحلاج نشأته المتواضعة، هل نقول الديمقراطية؟ في أبيات جرت على النسق التالي:
أنا رجل من غِمار الموالي
فقير الأرومة والمنبتِ
فلا حسبي ينتهي للسماء
ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون
بآلاف أيام هذا الوجود… إلخ
وكان بديهياً مع توالي السنين والقرون أن يتحول هؤلاء الآلاف من غمار الناس إلى ملايين من أعضاء المجتمع، وأن تصبح لهم أفكارهم وآراؤهم وأحلامهم وإحباطاتهم، وبالتحديد أن ترتبط حياتهم بالمؤسسة الظاهرة الاجتماعية التي باتت في زماننا تحمل العنوان التالي: الرأي العام.
وُلد هذا المصطلح على وجه التحديد في عام 1689 حين نشر المفكر الإنجليزي جون لوك رسالته الشهيرة بعنوان »مقالة عن المفهوم الإنساني«، مبشراً بأفكار المذاهب اللبرالية، وداعياً للإصغاء بما يصدر عن عموم الناس في المجتمع من أفكار وتوجهات وآراء.
ومع مستهل العقد الثالث من القرن العشرين تم تكريس الرأي العام عنصراً جوهرياً في عملية التواصل المجتمعي، وخاصة بعد أن توّصل ماركوني الإيطالي إلى معجزة الاتصال اللاسلكي، وهي التي أدخلت في حياة أهل ذلك الزمان معجزة أخرى حملت يومها اسم المذياع الراديو: هنالك أصدر الإعلامي الأميركي والتر لبمان دراسته الرائدة في عام 1922 التي حملت بدورها عنوانها الشهير »الرأي العام«.
خلال 90 سنة
وبديهي أن جرت في أنهار ومحيطات عالمنا مياه وأمواج كثيرة على مدار هذه السنوات التي أوفت على التسعين، وخلالها انشغل الباحثون والمفكرون بعلاقة الرأي العام في إطار تعريفه الجماهيري مع أدوات السلطة ومقاليد الحكم بكل تنوعاتها وعقائدها السياسية وتوجهاتها المذهبية في طول الكرة الأرضية وعرضها على السواء.
كتاب من 7 فصول
في هذا الإطار يصدر كتاب في ربيع العام الجاري ليرصد حقيقة التغيرات التي طرأت ومازالت تطرأ على المشهد السياسي في بلدان شتى، مع تركيز هذا الرصد على منظور محوري يجمع بين الرأي العام والتحول الديمقراطي.
هذا هو الكتاب الذي نعايشه في هذه السطور. وقد وضع مادته ثلاثة من العلماء الاختصاصيين، فيما عُنيت بتحريره وإصداره الدكتورة جولييت بييتش الأستاذة بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية بالمعهد الدولي للدراسات الآسيوية.
يضم الكتاب 7 فصول، منها ما يُعنى بالطروحات الديمقراطية وعلاقتها بنظم التحول السياسي خلال حركات الانتقال من وضع إلى وضع جديد، ومنها فصل ثان يركز على واقع التطبيق الديمقراطي في منطقة بعينها بديلاً عن التيار العالمي (أو العولمي) للتحول الديمقراطي.
ومنها فصل ثالث يتوقف ملياً بأدوات العرض والتحليل العملي عند حالات تطبيق التحول الديمقراطي، وتيارات الرأي العام في أقطار من آسيا أو أميركا اللاتينية، ثم فصل آخر يتدارس واقع استقرار ما يصفه بأنه الحكم السلطوي في روسيا.
في هذا الإطار يذهب مؤلفو هذا الكتاب الثلاثة إلى أن موجات من الحماس غير المسبوق كانت قد واكبت التحولات الديمقراطية التي شهدها العالم خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة:
ما بين الثورات الملونة في قارة أوروبا إلى الانتفاضات التي حملت وصف الربيع العربي في أقطار من الشرق الأوسط، في تلك الفترة حلّقت أحلام وتوقعات الرأي العام في تلك المواقع من عالمنا إلى عنان السماء، مفعمة بالآمال العريضة، ترنو إلى تحولات جذرية ترفع أعلام الديمقراطية وتبشر بكل ما كانت الجماهير- غمار الموالي كما وصفتهم مسرحية الحلاج- تحلم به من أوجه العدل والإنصاف والحياة الأفضل والانتصار الديمقراطي بالطبع- لصالح المظلومين والمحرومين والمهمّشين والمقهورين، على اختلاف الثقافات والأقطار والتوجهات.
مزايا الاستطلاع الميداني
أفضل ما تتميز به هذه النوعية من الدراسات إنما يتجسد في واقع أسلوب البحث التجريبي وأدوات الاستقصاء الميداني، على نحو ما تم اتباعه في كتابنا وفي كتاب آخر موازٍ له ومعبر بدوره عن مدى اهتمام الباحثين عما يمكن وصفه بأنه علم الإعلام الاجتماعي.
أما الكتاب الآخر وقد صدرت ترجمته العربية في بيروت، فيتدارس موضوع الصلة الدينامية والجدلية أيضاً بين وسائل الإعلام وعمليات التواصل السياسي في الديمقراطيات الجديدة.
هنالك يشترك الكتابان في توسيع أطر البحث العلمي كيما تشمل نظماً وأوضاعاً وأقطاراً متعددة الملامح والمواقع، ما بين تايوان في آسيا إلى شيلي وبيرو بأميركا اللاتينية ثم إسبانيا في غرب أوروبا إلى روسيا في الشرق الأوروبي وبعدها جنوب إفريقيا في مرحلة ما بعد الفصل العنصري.
ولقد أتاح أسلوب المسح أو الاستقصاء الاجتماعي للبحوث التي يضمها كتابنا أن تتواصل مع مختلف فئات المجتمعات التي أخضعتها للدراسة الميدانية وبحيث يمكن لقارئ هذا الكتاب أن يجد أكثر من تشابه مع أحواله وأفكاره الخاصة ومع آرائه ورؤاه التي تتراوح بالطبع بين السلب والإيجاب.
وفي هذا السياق أيضاً يعرف قارئ الكتاب كيف أن أوضاع ما قبل التحول الديمقراطي، وهي أوضاع سلطوية، أو شمولية (في روسيا – الاتحاد السوفييتي مثلاً) بل أوضاع ديكتاتورية (شيلي خلال حكم الجنرال أوغسطو بينوشيه) هذه الأوضاع لم يكن من الميسور تغييرها أو إنهاؤها بين عشية وضحها كي تحل محلها الأوضاع الديمقراطية التي كان ينشدها الرأي العام في هذه البلدان.
ويعرف القارئ أيضاً أن الأداة التي أصبح لها التأثير الأغلب في مثل هذه التحولات هي التلفزيون خصوصاً وأنه ينطوي، كما هو معروف، على عنصر الترفيه المحبّب، بالطبع، إلى قطاعات الرأي العام الأقل ثقافة أو الأدنى تعليماً..
فضلاً عن أن التلفزيون يحقق بذلك العنصر الثالث من مهام الرسالة الإعلامية التي لابد وأن تضم عنصر الترفيه وقبله يأتي عنصر الإخبار (بكسر الهمزة) أي التزويد بالمعلومات وبعده يأتي عنصر التوعية أو التثقيف.
مع ذلك تؤكد بحوث كتابنا أيضاً على أن الصحافة المطبوعة مازال لها دورها المؤثر، ولاسيما في أوساط المثقفين والمتعلمين، خصوصاً وأن التلفزيون في بلاد عدة خضعت لبحوث كتابنا، لايزال يتسم بالسلبية التي تتجسد إما في تبعيته للحكومة.
وهو ما ينال من مصداقية الرسالة الإعلامية التي يتولى بثها، أو أن الخدمة المتلفزة في بلاد التحول الديمقراطي ما لبثت أن تحولت بدورها إلى يد فعاليات القطاع الخاص وهو ما ينال بدوره من مصداقية حيدتها حتى لا نقول موضوعيتها، أو نزاهتها في بعض الأحيان، وخاصة في ضوء ما استجد على المشهد العالمي في الشرق.
وفي الغرب من مصالح عاتية واحتكارات متحكمة وبالغة القوة والنفوذ، متمثلة في الشركات متعددة الجنسية والمؤسسات عبر الوطنية التي لا تتردد في بسط نفوذها، تحقيقاً لمصالحها على مجالات الإعلام، حتى ولو جاء ذلك أحياناً على حساب طموحات ومصالح جماهير الرأي العام.
الديمقراطية تلقى قبولاً شعبياً
يعمد مؤلفو الكتاب إلى رسم الصورة التي تحولت إليها آمال الجماهير: وهي صورة مغايرة للحلم الذي طالما راود قطاعات من الرأي العام في الشرق أو في الغرب، بقدر ما أنها صورة جاءت حاشدة بظلال السلبيات: ما بين الأزمة الاقتصادية التي واجهت أقطار غرب أوروبا والولايات المتحدة، ومازالت عواقبها السلبية ماثلة حتى الآن، إلى ما يصفه كتابنا بأنه استمرار أو معاودة تأثير النظم السلطوية في كل من الصين وروسيا، وغيرهما.
لكن الكتاب لا يلبث أن يتبع نهجاً أقرب إلى المــــوضوعية أو الإنصاف البحــــثي، حين يــــسجل مؤلفوه أن ثمة جانباً إيجابياً من تلك التحولات التي شهدتها سنوات العقد ونصف عقد الأخيرة، وهذا الجانب يلخصه الكتاب في عبارة بليغة أقرب إلى الحكم الناجز..
وتقول: مازالت الديمقراطية تلقى بشكل مرموق قبولاً شعبياً بوصفها مثلاً أعلى على نحو ما شهدت به النتائج التي توصل إليها المقياس (البارومتر) العالمي الذي تم استخدامه لقياس توجهات الرأي العام في ســــاحات عالمية شتى خضعت لبحوث هذا الكتاب.
وبصورة أكثر تحديداً يقول المؤلفون: إن أحدث ما تم إجراؤه من استطلاعات الرأي العام يشهد بأن اثنين من الأفراد بين كل ثلاثة خضعوا لهذا القياس أفادا بأن الديمقراطية مازالت في تصورهما أسلوب الحكم المفضل.
ولدت وثيقة »الماجناكارتا« من رحم الخلافات والمناوشات التي دارت بين طبقات
الحرفيين والتجار ومعهم بارونات الأرستقراطية في إنجلترا وبين حاكمها في ذلك الزمان، الملك يوحنا (1166- 1216). وجاء هذا الصك التاريخي محصلة للضغوط التي مارستها هذه الفعاليات على يوحنا من أجل إقرار عدد من الحقوق والمزايا التي يمكن تحويلها لصالح جموع الناس دون أن تظل مقصورة على نخبة النبلاء أو صفوة الأرستقراطيين.
المؤلفون
بين مؤلفي الكتاب الثلاثة، تتميز الدكتورة جولييت بييتش بأنها تولت تحرير مواد الكتاب وإعداده من أجل النشر. وهي أستاذ بكلية الآداب والعلوم الاجتماعية في المعهد الدولي للدراسات الآسيوية.
وفيما يعمل زميلها الأول البروفيسور مايكل ميللر أستاذاً مساعداً في جامعة جورج واشنطن بالولايات المتحدة، فإن الزميل الثاني الدكتور جيفري كارب يعمل أستاذاً للعلوم السياسية بجامعة إكستر في إنجلترا.
تأليف:جولييت بييتش
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة روتليدج، نيويورك، 2016
عدد الصفحات: 124 صفحة