قضايا ودراسات

التكرار العقيم

خيري منصور

إذا شئت أن تصرف الناس عن كل ما تقول، عليك بتلك الوصفة النفسية التي تتلخص في التكرار والإلحاح، وبالتالي الإرهاق العاطفي لمن يصغون إليك، ولو تنبه إلى ذلك من جعلوا الكذب في الصميم من أطروحاتهم، بدءاً من جوبلز وجدانوف وسائر السلالة التي أفرزتها النظم الشمولية، لأدركوا أن ما كانوا يكررونه على مدار اللحظة بمناسبة وبدون مناسبة كان الحفرة التي سقطوا فيها تباعاً.
فالإنسان بطبعه وفطرته يصاب بالضيق وربما بالاختناق من التكرار، لهذا يقال إن أعظم ما شيّد في الحضارات، بدءاً من اليونان كان باعثه الشعور بالضجر وفائض الفراغ.
ولأن الثورة التكنولوجية كانت عارمة، فقد صرفت انتباهنا عن ثورات أخرى في العلوم الإنسانية، ومنها بالفعل ثورات «كوبرنبكية» كتلك التي نسبت إلى عالم الفلك كوبرنيكس.
حدث هذا في علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، أو ما يسمى بالعربية علم «الإناسة».
ومن تبنوا نظرية جوبلز القائلة إن تكرار الكذب على الذات والآخرين معاً يقلب الحقائق، انتهوا إلى مصائر بائسة، فالكذب كما يقال حباله قصيرة، وعمره أيضاً قصير!
وقد ثبت بالفعل أن تكرار إعلانات معينة عبر الشاشات الأرضية والفضائية، كانت له نتائج سلبية وغير متوقعة على الإطلاق.
وما يحدث في عالم الإعلانات تنتقل عدواه أحياناً إلى عالم السياسة، لهذا فالإعلام الذي يختزل الإنسان إلى بعد واحد هو البعد الاستهلاكي، كما قال هربرت ماركيوز، يكتشف بعد فوات الأوان أن للإنسان أبعاداً أخرى، لأن البشر لا يعيشون بالخبز وحده، وكذلك لا يعيشون من أجل أن يقطفوا الورد فقط!
فالحياة ضرورة وحرية، ولها مكونات وعناصر أساسية وأخرى ثانوية، وما بلغه الإنسان المعاصر من معرفة ووعي، يتطلب قدراً من الاحترام وعدم الاستخفاف.
لكن هناك من توقف نمو وعيهم عند الحرب العالمية الثانية، وراهنوا على أن التاريخ توقف معهم!

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى