الحرب الأمريكية مع روسيا
تأليف: ستيفن كوهين
ترجمة وعرض: نضال إبراهيم
أمريكا في حرب باردة جديدة مع روسيا أكثر خطورة من تلك التي نجا منها العالم في القرن العشرين. لقد رحل الاتحاد السوفييتي؛ إلا أن القوتين العظميين النوويتين تخوضان مرة أخرى مواجهات سياسية وعسكرية، من أوكرانيا إلى سوريا وغيرها من الملفات العالقة، ويتفاقم كل هذا؛ من خلال التشويه والتضليل الإعلامي غير المسبوق. إلا أن مؤلف هذا الكتاب يجد أن «التضليل الأمريكي»، وليس الروسي فقط، يشكّل خطراً متزايداً.
يقدم المؤرخ ستيفن كوهين رواية مختلفة تمام الاختلاف عن هذه الحرب الباردة الأكثر خطورة، التي تعود أصولها إلى التسعينات، وهو الدور الفعلي لفلاديمير بوتين، والأزمة الأوكرانية لعام 2014 إلى انتخاب دونالد ترامب، والادعاءات الحالية بشأن «روسيا جيت».
إن آراء كوهين جعلته «خبير روسيا الأكثر إثارة للجدل في أمريكا» بحسب المراقبين. كما يجد بعضهم أن تعليقاته محل شجب، والبعض الآخر يُشيد به؛ باعتباره منتقداً جريئاً، وواعياً للغاية للسياسات الأمريكية، والأخطار التي ساعدت على خلقها. في عمله هذا يترك كوهين للقرّاء الفرصة ليقرروا بأنفسهم من هو على صواب؛ من خلال توقفه عند أسئلة مثل: هل نعيش، في وقت لم يسبق له مثيل من مخاطر في الداخل والخارج الأمريكي؟ هل نحن في حرب باردة جديدة مع روسيا؟ كيف تؤثر الحرب الباردة الجديدة في سلامة وأمن الولايات المتحدة؟ هل يريد فلاديمير بوتين حقاً زعزعة استقرار الغرب؟
من الثناء إلى التشويه
يقدّم المؤلف في مقدمته بعنوان: «بوتين الشبح» نماذج عن تصوير بوتين وروسيا في الإعلام الأمريكي، والخطاب الأمريكي العام، ويستشهد في مقدمته بمقولة للسيناتور جون ماكين: «بوتين رجل شرير، وهو عازم على ارتكاب الأفعال الشريرة»، وأيضاً ما قالته المرشحة الديمقراطية للانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016 هيلاري كلينتون: «بوتين كان عميلاً لجهاز الاستخبارات السوفييتية ( كيه جي بي)، الذي بطبيعته، لا يملك روحاً». وأضافت كلينتون: «إذا كان هذا يبدو مألوفاً، فهذا هو ما فعله هتلر في الماضي، أثناء ثلاثينات القرن العشرين».
يضيف الكاتب: «لقد استحوذ «شبح الشر» فلاديمير بوتين على الولايات المتحدة، وزعزع تفكيرها حول روسيا لمدة لا تقل عن عقد من الزمن؛ لذا كان من الضروري تناول هذا الموضوع. وهنري كيسنجر يستحق الثناء لتحذيره والذي ربما لوحده من بين الشخصيات السياسية الأمريكية البارزة من مغبة هذا التشويه السيئ لصورة الزعيم الروسي منذ عام 2000 بالقول: إن القيام بتشويه صورة فلاديمير بوتين لا يمت إلى السياسة بصلة. إنه مبرر لعدم امتلاك أي سياسة». مضيفاً: إلا أن كيسنجر أيضاً كان مخطئاً، فقد اتخذت واشنطن العديد من السياسات، التي تأثرت بشدة بتشويه صورة بوتين، وهو تشهير شخصي تجاوز بكثير ما تم تطبيقه على زعماء روسيا السوفييتية الشيوعيين المعاصرين.
يرى كوهين أن هذه السياسات انتشرت جرّاء تزايد الشكاوى في بدايات العقد الأول من القرن الحادي والعشرين؛ لتصل إلى نطاق حروب بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا في جورجيا وأوكرانيا وسوريا، وحتى في داخل أمريكا لاحقاً، خلال ادعاءات بشأن «روسيا جيت». في الواقع، اعتمد صانعو السياسة على صياغة سابقة للسيناتور الراحل جون ماكين؛ باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حرب باردة جديدة وأكثر خطورة: «بوتين رجلٌ إمبريالي روسي متمسك بالمبادئ البالية، بيروقراطي وعميل في ال(كيه جي بي)… عالمه مكان وحشي ومدعو للسخرية… يجب أن نمنع شر عالم بوتين من إصابة المزيد من الإنسانية».
ويعلق: «لقد لعبت وسائل الإعلام الرئيسية دوراً كبيراً في هذا التشويه. وبعيداً عن هذه الحالة غير المألوفة، فقد كتب محرر الصفحة الافتتاحية لصحيفة «واشنطن بوست»: إن الحكم بالخوف هي حالة سوفييتية؛ لكن في هذا الوقت لا توجد أيديولوجية؛ فقط يوجد خليط ضار من التضخيم الشخصي، ورهاب الأجانب، ورهاب المثلية، ومناهضة الأمركة البدائية. منشورات وكتاب محترمون الآن بشكل روتيني ينتقصون من قيمتهم؛ من خلال التنافس لتشويه سمعته، وهناك المئات من هذه الأمثلة، إن لم يكن أكثر، على مدى سنوات عديدة. لقد أصبح تحقير الزعيم الروسي عملاً مألوفاً في خطاب الولايات المتحدة المتشدد للحرب الباردة الجديدة.
كما هي الحال بالنسبة لجميع المؤسسات، فإن التشهير ببوتين له تاريخه الخاص. عندما ظهر لأول مرة على الساحة العالمية خلفاً لبوريس يلتسين في 1999-2000، كان بوتين موضع ترحيب من قبل ممثلين بارزين في المؤسسة الإعلامية السياسية الأمريكية. وفي هذا السياق، أفاد كبير مراسلي صحيفة «نيويورك تايمز» في موسكو وغيره بأن الزعيم الجديد لروسيا لديه «التزام عاطفي يدفعه لبناء ديمقراطية قوية». بعد عامين، أشاد الرئيس جورج دبليو بوش بقمته مع بوتين، واصفاً إياها ك«بداية لعلاقة بناءة جداً».
لكن هذه الرواية الملائمة لبوتين سرعان ما أفضت إلى توجيه ضربات لبوتين بشدة. في عام 2004، أوضح نيكولاس كريستوف، كاتب عمود في صحيفة «التايمز»، السبب في ذلك جزئياً على الأقل. فقد اشتكى كريستوف بمرارة من «الانخداع ببوتين، فهو ليس بالنسخة الجادة لبوريس يلتسين». وبحلول عام 2006، أعرب محرر صحيفة «وول ستريت جورنال»، عن رأي المؤسسة المعدّل، أنه «حان الوقت لأن نبدأ التفكير في روسيا فلاديمير بوتين كعدو للولايات المتحدة».
الإيجابيات والسلبيات
من كان بوتين حقاً خلال سنواته العديدة في السلطة؟ قد نضطر إلى ترك هذا السؤال الكبير والمعقد إلى المؤرخين في المستقبل؛ عندما تتوفر مواد للدراسة الذاتية الكاملة – مذكرات ووثائق الأرشيف وغير ذلك- ومع ذلك، قد يدهش القرّاء عند معرفة أن مؤرخي روسيا أنفسهم، إضافة إلى مفكري السياسة، والصحفيين يجادلون علناً ويختلفون بشكل كبير فيما يتعلق ب«الإيجابيات والسلبيات» لقيادة بوتين.
لكن في أمريكا وفي أماكن أخرى في الغرب، فإن «السلبيات» المزعومة فقط هي التي تعد من التشهير الزائد ببوتين. والكثير من السلبيات غير ملموسة وتفتقر إلى الدراية إلى حد كبير، وتستند إلى مصادر انتقائية للغاية أو غير مؤكدة، وتحركها المظالم السياسية، بما في ذلك شكاوى تظلم ضد العديد من أعضاء حكومة القلة في عهد يلتسين وعملائهم في الغرب. اعتمد بوتين عدداً من سياسات «مكافحة الفساد» على مر السنين. ما مدى نجاح هذه السياسات، وما مقدار القوة التي كان ليملكها؛ ليكبح تماماً جماح الأوليغارشية في كل من عهد يلتسين وعهده، وما مدى صدقه؟
من خلال التحديد والفحص، الموجز ل«السلبيات» الأساسية التي يستند إليها تشويه صورة بوتين، يمكننا أن نفهم على الأقل التالي:
بوتين ليس الرجل الذي، بعد وصوله إلى السلطة عام 2000، «قوّض الأسس الديمقراطية» للديمقراطية الروسية، التي أسسها الرئيس بوريس يلتسين في تسعينات القرن العشرين، وهو ليس الرجل الذي استعاد نظاماً يشبه «الشمولية» السوفييتية. فكلنا نعلم بأن التحول الديمقراطي بدأ وتطور في روسيا السوفييتية برعاية الزعيم السوفييتي السابق، ميخائيل جورباتشوف، خلال الأعوام (1987 1991) عالج يلتسين مراراً وتكراراً تلك التجربة الروسية التاريخية؛ عبر ضربات جسيمة، وربما مدمرة؛ مثل: استخدام الدبابات، في أكتوبر/تشرين الأول 1993؛ لتدمير برلمان روسيا المُنتخب بحرية ومعه النظام الدستوري بأكمله، والذي جعل يلتسين رئيساً، وشن يلتسين حربين دمويتين ضد مقاطعة الشيشان الانفصالية الصغيرة، وتمكين مجموعة صغيرة من الأوليغارشيين المرتبطين بالكرملين من نهب أغنى ممتلكات روسيا، والعمل على إغراق نحو ثلثي شعبها في براثن الفاقة والعوز، بما في ذلك الطبقة المتوسطة السوفييتية الكبيرة ذات الطابع المهني، وأيضاً تزوير إعادة انتخابه، وسن الدستور «الرئاسي المميز»، على حساب السلطة التشريعية والقضائية ولكن لمصلحة خليفته. ربما كان بوتين قد عزز هذا التدهور الديمقراطي في تسعينات القرن العشرين؛ لكنه لم يشرع في ذلك.
كما أن بوتين لم يجعل نفسه قيصراً أو «أوتوقراطياً» سوفييتياً، يحكم وفق إرادته الشخصية. كان آخر زعيم في الكرملين بهذا النوع من القوة هو ستالين، الذي توفي في عام 1953، ومعه الإرهاب الشامل الذي استمر 20 عاماً؛ نظراً لتزايد الروتين البيروقراطي للنظام السياسي الإداري، كان لكل قائد سوفييتي متعاقب قوة شخصية أقل من سلفه. قد يكون لبوتين أكثر من ذلك؛ لكن لو كان فعلاً مستبداً «لا يرحم وبدمٍ بارد» أو «أسوأ ديكتاتور في العالم»، لما خرج عشرات الآلاف من المحتجين مراراً إلى شوارع موسكو، وأحياناً بموافقة رسمية من الدولة، ليتم عرض احتجاجاتهم (والاعتقالات الانتقائية) على التلفزيون الحكومي.
كما لم يخلق بوتين «النظام الاقتصادي القائم على النهب» لروسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، مع حكم الأقلية والفساد المستشري. وقد ظهر هذا أيضاً خلال حكم يلتسين أثناء وضع الكرملين لخطط «الخصخصة» العلاجية في تسعينات القرن العشرين، عند ظهور «النصابين واللصوص» على الساحة فعلاً، والذين أُدينوا من المعارضة الحالية.
ملفات عالقة
تظل أوكرانيا البؤرة السياسية للحرب الباردة الجديدة؛ لكن سوريا هي المكان الذي قد تصبح فيه الآن حرباً ساخنة حسب الكاتب. ويشير إلى أن اتفاق وقف إطلاق النار في سوريا يُعطي الأمل على عدة مستويات: من الشعب السوري المعذب إلى أولئك الذين يريدون التحالف الأمريكي- الروسي ضد «داعش» وأمثاله من الإرهابيين مع إمكانية تقليص الحرب الباردة الجديدة.
ويتحدث عن مجريات الصراع على الأرض السورية خلال السنوات الأخيرة، في ظل رئاسة أوباما قائلاً: «كانت فرص نجاح وقف إطلاق النار ضئيلة، والسبب في ذلك يعود جزئياً إلى عدد المقاتلين، وعدم وجود آلية مراقبة؛ ولكن بشكل أساسي بسبب القوى المؤثرة المعارضة لوقف إطلاق النار في كل من واشنطن وموسكو. كانت المعارضة الأمريكية واضحة بالفعل من تصريحات كبار السياسيين، من استياء وزير الدفاع آشتون كارتر (2015-2017) الواضح، من مفاوضات كيري مع موسكو، ومن تقارير معارضة وقف إطلاق النار والافتتاحيات في مؤسسات الإعلام. في غضون ذلك، أشار إعلان بوتين الشخصي غير العادي لمدة عشر دقائق لوقف إطلاق النار على التلفزيون الروسي، أن العديد من مستشاريه العسكريين الأمنيين يعارضون الاتفاقية، لأسباب مفهومة. فهم يريدون أن تواصل موسكو نجاحها المحقق في سوريا منذ تدخلها العسكري في سبتمبر/أيلول 2015؛ حيث إن هذه السياسة الدبلوماسية التي ينتهجها بوتين الآن في وقف إطلاق النار تجعله عرضة لالتزام أوباما، والذي سبق له أن انتهك الاتفاقات مع الكرملين، ومؤخراً فيما يتعلق بليبيا من عدم الالتزام بتعهده في مواصلة تغيير النظام».
في الختام يقول الكاتب: «مرة أخرى، في ضوء ما سبق، ما الذي يمكن فعله؟ على نحو عاطفي ومع بعض السوابق التاريخية، فإننا وكما جرت العادة ننظر بمعتقداتنا الديمقراطية إلى الناس، وإلى الناخبين؛ لإحداث التغيير. إلا أن السياسة الخارجية بقيت لفترة طويلة من الصلاحيات الخاصة بالنخب؛ من أجل تغيير سياسة الحرب الباردة بشكلٍ أساسي لا بد أن يقوم القادة بتبني هذا التغيير، وعندما يحين الوقت قد يخرج أولئك القادة من النخب الراسخة وحتى المحافظين بشدة، مثلما فعل رونالد ريجان، وميخائيل جورباتشوف في منتصف ثمانينات القرن العشرين بشكلٍ غير متوقع؛ لكن بالنظر إلى خطر الحرب المحتملة مع روسيا، هل حان الوقت؟ هل من قائدٍ بارز يظهر على المشهد السياسي الأمريكي سيقول لنخبته وحزبه كما فعل جورباتشوف؟ إن لم يكن الآن فمتى؟ إن لم يكن نحن فمن؟ نعرف أيضاً أن مثل هؤلاء القادة رغم أنهم راسخون في النخبة ومعزولون عن أهل النخبة، فإنهم يقرؤون ويسمعون الأصوات الأخرى غير الملتزمة، والتفكير الآخر. وقد كتب الصحفي الأمريكي الشهير ولتر ليبمان ملاحظته حول ذلك قائلاً: «عندما يفكر الجميع على حدٍ سواء فلا أحد يفكر». ويضيف عليها كوهين: «إن هذا الكتاب هو محاولتي المتواضعة لإلهام المزيد من التفكير».
نبذة عن المؤلف
* ستيفن كوهين أستاذ فخري في السياسة بجامعة برينستون. عمل لسنوات عديدة مديراً لبرنامج الدراسات الروسية، وأستاذاً فخرياً للدراسات والتاريخ الروسي في جامعة نيويورك. نشأ في أوينسبورو ( كنتاكي) بالولايات المتحدة، وحصل على درجتي البكالوريوس والماجستير في جامعة إنديانا، وشهادة الدكتوراه في جامعة كولومبيا.
لكوهين مؤلفات عديدة منها: «بوخارين والثورة البلشفية: السيرة السياسية»، و«إعادة التفكير في التجربة السوفييتية: السياسة والتاريخ منذ عام 1917»؛ «السوفيتكس: التصورات الأمريكية والواقع السوفييتي»، «أصوات جلاسنوست: مقابلات مع الإصلاحيين في جورباتشوف»؛ «حملة صليبية فاشلة: أمريكا ومأساة روسيا ما بعد الشيوعية»، «المصير السوفييتي والبدائل الضائعة: من الستالينية إلى الحرب الباردة الجديدة»؛ و«عودة الضحايا: الناجون من الغولاغ بعد ستالين».
حصل كوهين على العديد من الألقاب في أعماله، بما في ذلك زمالتان في غوغنهايم وترشيح لجائزة وطنية للكتاب. على مر السنين، كان أيضاً مساهماً دائماً في الصحف والمجلات والتلفزيون والإذاعة. لسنوات عديدة، كان كوهين مستشاراً ومعلقاً على الهواء في الشؤون الروسية في أخبار«سي بي إس»، كما كان أيضاً مستشاراً لثلاثة أفلام وثائقية لبرنامج تلفزيوني حول روسيا. زار كوهين وعاش في روسيا السوفييتية وما بعد الاتحاد السوفييتي بانتظام لأكثر من أربعين سنة.