الحروب الباردة والأعداء فيها
عبد الإله بلقزيز
تُطِلّ الحرب الباردة، مجدّداً، على العلاقات الدوليّة وأوضاع العالم في السنوات الأخيرة. قلنا في مقالٍ سابقٍ، في هذا المنبر، إنها لم تنته في بداية تسعينات القرن الماضي، بعد انهيار الاتحاد السوڤييتيّ، كما يُزْعم أو، قل، إنها انتهت إعلاميّاً (كلاميًّا) ولكنها استمرّت سياسيّاً وعسكريّاً. لكنّ نُذُرها، اليوم، توحي بعودة فصولها المتأزّمة بالشدّة نفسها التي كانت بها بين الخمسينات والثمانينات. ومع أنّ معسكراً دوليّاً بكامله – كان طرفاً في تلك الحرب الباردة (هو المعسكر «الاشتراكيّ»)- انتهى وزال من الوجود، إلاّ أنّ اختفاءَه لم يغيّر من حقيقة استمرار الحرب تلك بين الدولتين الكبيرتين اللتين قادتا معسكريهما، في الماضي، وكانتا قطبيْ المواجهة: الولايات المتحدة الأمريكيّة وروسيا. ومن يقرأ، اليوم، تصريحات الرئيس ترامپ، وأركان إدارته، حول روسيا، أو الإعلان الأمريكيّ عن اعتزام واشنطن الانسحاب من المعاهدة النوويّة، يشعر وكأنّ إيقاع المواجهة الكلاميّة العالي يُخفي نيّةً في توتيرٍ سياسيّ قد يأخذ العالم إلى استقطابات جديدة أو هو، على الأقل، سيجعل من الخلافات الأمريكيّة – الروسيّة المستفحلة عقدةً جديدة في العلاقات الدوليّة، ومبعثاً لنزاعاتٍ إقليميّة جديدة.
هل «تعود» الحرب الباردة لأنّ حقبة الأوحديّة القطبيّة – التي أعقبت الثنائيّة القطبيّة بين العظمييْن- دخلت طور الانحسار الحادّ منذ عقدٍ ونصف؛ بعد الذي أصاب الولايات المتحدة من وهن عسكريّ – جرّاء حروبها في العراق وأفغانستان – ووهن اقتصاديّ- بعد الأزمة الماليّة في العام 2008 – وبداية تشكُّل نظامٍ اقتصاديّ متعدّد الأقطاب؟ ما من شكّ في أنّ ذلك قد يكون من أسباب الاندفاعة السياسيّة الأمريكيّة وراء خيارات القوّة، ورفع مستويات المواجهة مع الخصوم والأعداء (روسيا، الصين، بلدان الجنوب). ولكن إذا كان تشكُّل مثل هذا النظام الاقتصاديّ – متعدّد الأقطاب- سبباً لتجريد أمريكا من امتياز احتكار الثروة والقوّة الاقتصاديّة، فإن روسيا ليست قطباً كبيراً، في النظام الاقتصاديّ العالميّ، حتى تتحسّس الولايات المتحدة من أدوارها الاقتصاديّة. إنها دون الصين بمسافات، بل دون دولٍ من الجنوب كبرى مثل البرازيل والهند. ومع ذلك تُعاملُها الولايات المتحدة كعدوٍّ رئيسي، بينما لا تفعل ذلك مع الصين: ثاني قوّة اقتصاديّة في العالم؛ على الرغم ممّا بينهما من تنافُسٍ حادّ على الأسواق والاستثمارات، وممّا بينهما من نزاعات تجاريّة (التبادل التجاريّ)! يتعلق الأمرُ بمفارقةٍ، إذن، في هذه الحال! لكنها المفارقة التي ترتفع، ويرتفع الاستفهام عنها، حين ندرِك أنّ روسيا لم تكن عدوّاً للغرب، والولايات المتحدة بخاصّة، لأنها كانت شيوعيّة وتقود معسكراً شيوعيّاً، بل لأنها روسيا فقط! وإلاّ ما الذي منع من تصحيح العلاقة بها بعد أن أصبحت جزءاً من المنظومة الرأسماليّة، وانتهى التناقض الإيديولوجيُّ فيها، وأُلْحِق الجزءُ الذي كان تحت سيادتها من أوروبا ( شرق أوروبا) بالعالم الرأسماليّ؛ بل دخلت جمهوريات من جمهوريّاتها (السوفييتيّة السابقة: مثل أوكرانيا وجورجيا وبعض جمهوريّات آسيا الوسطى ودول البلطيق) في المنظومة تلك، وباتت تابعة للولايات المتحدة الأمريكيّة رأساً؟ ثم لماذا لم تتحوّل دولةٌ أخرى أعظمُ من روسيا، اقتصاديّاً، مثل الصين الشعبيّة، إلى عدوٍّ أوّل؛ على الرغم من أنّ الشيوعيّين هم الذين يقودون سياستَها ويديرون اقتصادَها؟ ولماذا تتجاوب دول أوروبا مع الضغوط الأمريكيّة فتفرض العقوبات على روسيا، على الرغم من معرفتها بأنها تتضرّر – كدولٍ- من ذلك لوجود مصالح اقتصاديّة مشتركة مع روسيا؟
من الواضح أنّها أسئلة تتضافر في قول الشيء عينِه: روسيا عدوٌّ للغرب في الأحوال كافّة: شيوعيّة كانت أو رأسماليّة، بلشفيّة أو قيصريّة. لذلك لا تملك اليوم – ولا غداً- أن تنضمّ إلى «الاتحاد الأوروبي» ولا إلى «حلف شمال الأطلسيّ»، رغم انطباق الشروط عليها؛ فالغرب سيظلّ – حتى إشعارٍ آخر- واقعاً تحت سطوة مخاوفه وذاكرته التاريخيّة: الخوف اللاتينيّ والجرمانيّ والساكسونيّ من الشعوب السلافيّة؛ والخوف الكاثوليكيّ والبروتستانتيّ من الأرثوذوكس. إنّه خوفُ الغرب من الشرق؛ الخوف الذي يتغذّى من نزعةٍ مركزيةٍ أوروبيّة وغربيّة مسكونة بفكرة التفوّق، وباحتقار الشرق، والنظر المستمر إليه بوصفه مصدر الشرّ، ومنبع موجات البرابرة. كان بوريس يلتسين ذليلاً، في علاقته بالغرب والأمريكيين، وفتح أبواب روسيا – في التسعينات- لعصابات النهب المحلّية والأجنبيّة، نفّذ الإملاءات الخارجيّة؛ فكّك اقتصاد الدولة، وأجهزة الأمن، والصناعات العسكريّة، وشرّع الأبواب أمام المصالح الأجنبيّة…إلخ. ومع ذلك، أهانه الغرب أشدّ الإهانة لأنّه روسي. وهكذا يُرى إلى پوتين اليوم؛ إنّه، عند الغرب، صورة متجدّدة لبريجنيڤ أو ستالين أو لينين أو القيصر… ليس أكثر!
على الرغم ممّا فعلته تركيا بهويّتها ومواريثها التاريخيّة (تغيير الحرف العربيّ باللاتينيّ؛ إلغاء الخلافة؛ العلمنة الشاملة؛ التضييق على المؤسّسات الدينيّة الإسلاميّة، الانضمام إلى الأحلاف العسكريّة الغربيّة؛ التبعيّة السياسيّة الكاملة للولايات المتحدة…)، إلاّ أنّ النظرة إليها كبلدٍ شرقيّ، ينتمي إلى دائرة حضاريّة ودينيّة مختلفة، لا تزال هي نفسها، ولم يشفع لتركيا – كما لروسيا- أنها تنتمي، جغرافيّاً، إلى أوروبا. وهذه النظرة الاستعلائيّة إليها هي ما يمنع دول «الاتحاد الأوروبيّ» من قبول طلب عضويّتها فيه؛ على الرغم من أنها أكبر بلدان أوروبا سكّانيّاً وخامس قوّة اقتصاديّة فيها: بعد ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا! إنها، في وعي الغرب، الدولة العثمانيّة: العدوّ اللدود له عداوته للعدوّ القيصريّ الروسي. وسيزيد معدّل الخوف منها أكثر مع صعود الأوهام العثمانيّة الجديدة مع إسلاميّي «العدالة والتنمية».
هل نستغرب اليوم، إذن، لماذا يوضَع الإسلام – إلى جانب روسيا- في المقام عينِه من الاستعداء الغربيّ السافر؟!
abbelkeziz@menara.ma