قضايا ودراسات

الدولة العربية بين دعاتها وخصومها

الحسين الزاوي

تعرف الدولة العربية الحديثة تحديات غير مسبوقة منذ تأسيس القسم الأكبر من كياناتها الوطنية خلال النصف الأول من القرن الماضي على أنقاض ما سمّي باتفاقية سايكس- بيكو، وما ترتب عنها من تطورات لاحقة، أفضت إلى خروج الدول الاستعمارية الكبرى من منطقتي الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبروز وقائع جيو سياسية جديدة، كان من أبرزها احتدام الصراع بين الشرق والغرب، وانخراط معظم الدول الكبرى في أتون الحرب الباردة ما بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وقد سمح ذلك الاستقطاب الحاد بين المعسكرين لمعظم الدول العربية، ببناء مؤسساتها السياسية بناءً على أسس إيديولوجية متباينة، كانت في مجملها صدى لذلك الانقسام الذي أفرزته المنظومة السياسية العالمية.
وعليه فقد عرفت الكثير من الأقطار العربية مشاكل وصعوبات سياسية ومجتمعية كبرى، نتيجة للتحوّلات التي بدأ يعرفها المشهد السياسي العالمي منذ بداية التسعينات من القرن الماضي، وصولاً إلى أحداث الحراك الشعبي الذي عايشت فصوله شعوب، ما أصبح يعرف في أبرز وسائل الإعلام الغربية والعربية، ما يسمّى ب«الربيع العربي».
وفتحت هذه التطورات المتسارعة والعنيفة في بعض جوانبها السياسية والأمنية، الأبواب على مصراعيها أمام خصوم الدولة العربية من أجل شن حملة شعواء ضد هذه الكيانات الوطنية التي أصبحت متّهمة، من وجهة نظرها، بالمسؤولية المباشرة عن كل الإخفاقات السياسية والاقتصادية والثقافية والدينية التي تسببت فيها مختلف النخب بشقيها التقليدي والحداثي، التي تعايشت طوال عقود من الزمن مع واقع مجتمعي هجين، عجز حتى الآن على حسم خياراته المتعلقة بهوية مشروع المجتمع الذي يترتب اختياره، من أجل حل معضلة المشروعية السياسية التي يترتب أن تبنى عليها مؤسسات الدولة الوطنية.
وإذا كانت بعض الانتقادات الموجّهة للدولة العربية، قد جاءت من داخل النسق المؤمن بمشروعية هذا الكيان الحديث والمتمسِّك بضرورة إصلاحه وجعله متساوقاً مع متطلبات الدولة العصرية، ومع تطلعات مختلف النخب المؤمنة بمشاريع الحداثة والتطوير؛ فإن الكثير من الانتقادات الحادّة والجذرية ما زالت تنطلق من رؤية عدمية للواقع العربي، وتسعى إلى تسفيه كل منجزات الدولة العربية الحديثة، من أجل تقويض أركانها وإعادة بناء كيان سياسي بديل، قائم على مشروعية هلامية تعمل جماعات الإسلام السياسي على الترويج لها منذ تأسيس «حركة الإخوان المسلمين» في مصر سنة 1928.
ومن السهل علينا أن نلاحظ في سياق متصل، أن خصوم الدولة العربية ضاعفوا، منذ اندلاع ما يسمّى ب«الربيع العربي» مع بداية 2011، من هجومهم على الدولة العربية، متهمين إياها ب«الطغيان» و«الاستبداد» و«الفساد»، وذهب الكثير منهم إلى المطالبة بإزالة هذا الصرح المؤسساتي الذي أقامته دولة الاستقلال في الوطن العربي، اعتماداً على بعض الحجج المتداولة في النظريات الليبرالية الأنجلوساكسونية، لاسيما في نسختها الأمريكية التي تزعم أن الدولة يجب عليها أن تكون في خدمة الفرد بالدرجة الأولى، وليس في خدمة الجماعة، وفق ما تؤمن بها النظريات الفلسفية القارية في أوروبا التي انطلقت من نظريات العقد الاجتماعي، ومن التصورات الهيغلية للدولة، ودعت إلى تقديم المصلحة العامة للأمة على مصلحة الأفراد.
وقد سعى بعض خصوم الدولة العربية من الليبراليين والقوميين الذين تحالفوا مع تيار الإسلام السياسي إلى تبني صيغ ومنظومات فكرية غربية جاهزة، من أجل تطبيقها على ما يسمّونه بالثورات والثورات المضادة، وتذكّرنا اجتهاداتهم النظرية بالأسطورة التي تفيد أن هناك شخصاً صنع تابوتاً وشرع في البحث عن الجثة المطلوبة، فإن كانت أكبر من التابوت سعى إلى قطع أطرافها لتصبح مناسبة لحجمه، وإن كانت الجثة أصغر من التابوت عمل على تمطيطها وتوسيعها، لتتلاءم مع حجم التابوت المصنوع.
كما ينطبق على هذه الاجتهادات التي أرادت تطويع النظريات الفكرية المتداولة في منظومات الفكر السياسي العالمي على أوضاع دول ما يسمّى ب«الربيع العربي»، ما سبق أن قاله المفكر المغربي محمد عابد الجابري بشأن القراءات الماركسية للتراث التي أكد أنها تعاملت مع المنهج الماركسي كمنهج مطبق وليس كمنهج للتطبيق. وبالتالي فعندما تطوّرت أحداث الحراك العربي نحو مسارات تتعارض مع نموذج التابوت النظري الذي جرى الترويج له فكرياً وإعلامياً، وفشلت وخابت بالتالي توقّعاتهم التي تمّت صياغتها بناء على منهج جاهز ومطبق سلفاً، بدأ أصحاب هذه الاجتهادات المتهافتة في التهجم على الدولة العربية «المستبدة» و«القمعية» التي باتت تشكل في أعينهم امتداداً للدولة الاستعمارية، بل وصل بعضهم إلى حد شتم شعوب عربية، تملك تقاليد حضارية ضاربة بجذورها الراسخة في عمق التاريخ البشري.
ويمكننا أن نخلص عطفاً على ما تقدّم، إلى أن الدولة العربية الحديثة، وفق ما يراه دعاتها والمدافعون عن هويتها وعن حقها في الوجود، ليست في واقعها وفي صورتها الراهنة لا شراً مطلقاً ولا خيراً كاملاً، ولكنها تمثل بإيجابياتها وسلبياتها بناءً مؤسساتياً يملك القابلية للتعديل والتطوير، حتى يكون قادراً على الاستجابة لتطلعات الشعوب العربية في العيش الكريم، لأن قيم المساواة والمواطنة والحرية ومتطلبات العدالة الاجتماعية يصعب تحقيقها خارج سياق هذه الدولة الوطنية التي استطاعت حتى الآن أن تضمن ولاء السواد الأعظم من أبنائها، كما استطاعت أن تحتضن القسم الأكبر من الهويات الجزئية داخل كياناتها، وليس هناك ما يبرر استثمار أخطائها وعثراتها من أجل الإجهاز عليها في لحظة تاريخية مفصلية، لم يعد ممكناً فيها بناء كيانات دولوية أفضل وأكبر من الدولة الوطنية الحديثة.

hzaoui63@yahoo.fr

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى