غير مصنفة

الذكي من يحترم ذكاء غيره

محمود الريماوي

رددت المندوبة الأمريكية في مجلس الأمن نيكي هيلي ما قاله الرئيس دونالد ترامب في بيانه حول دواعي قرار الاعتراف بالقدس عاصمة لدولة الاحتلال. حيث ركزت السفيرة على ما اعتبرته حق الدولة الصهيونية بتسمية عاصمتها. وعلى الاعتراف بالأمر الواقع كون المؤسسات «الإسرائيلية» قائمة في القدس مثل الكنيست ومقر الحكومة. علاوة على قولها إن بلادها ما زالت ملتزمة بعملية السلام.
وقد استندت محاجة المندوبة هيلي إلى منطق شكلي مسطح. فالدول حرة حقاً بتسمية عواصمها أو تغيير عاصمتها، غير أن المندوبة استخفت بذكاء وذاكرة من يسمعها، حين تجاهلت أن القدس مدينة محتلة، وأن قرارات الأمم المتحدة تشهد على ذلك، وكذلك الأمر مواقف الغالبية العظمى من دول العالم، فهل يحق لمن احتل مدينة ما، وأبدى إعجابه وتمسّكه بما استولى عليه، هل يحق له تسمية ذلك المكان عاصمة له، وهل يحق للآخرين وبالذات لأمريكا مجاراة اللصوص في ما ذهبوا إليه؟. لقد سبق للولايات المتحدة أن اتخذت مواقف منصفة إلى جانب بقية دول العالم حين وقفت ضد احتلال نظام صدام للكويت، وحتى ضد احتلال الدولة العبرية لغزة في عدوان العام 1956 الذي عرف بالعدوان الثلاثي، فلماذا يتم الاستخفاف بعقول البشر، وذلك بالقفز عن واقعة احتلال القدس عام 1967 ضمن أراض عربية أخرى جرى احتلالها؟ وهل يليق التذاكي المكشوف بدبلوماسيين في منزلة السفيرة هيلي؟..
أسوأ من ذلك أن تتحدث السفيرة عن أمر واقع وتسوغ الاعتراف به، فهذه هي أسوأ مظاهر البراجماتية وأشدّها فجاجة. لو تم الأخذ بهذا المنطق لكان من حق أي معتدٍ في عالمنا أن يظفر بما يشاء من ممتلكات الغير وحقوقهم، ويعتبره أمراً واقعاً، ويعرف القاصي والداني أن الدولة العبرية استولت على القدس بالقوة الغاشمة ثم مارست كل أشكال التضييق والتنكيل بأبناء القدس العرب من استيلاء على البيوت إلى تطويق المدينة بالمستوطنات إلى فرض ضرائب خيالية على التجار تفوق مجموع مداخيلهم، إلى سن قوانين تمنع أي مقدسي من العودة إلى مدينته وغيرها من وسائل الإكراه والعسف. وفحوى ما ذهبت إليه السفيرة هو مباركة هذه الإجراءات التي يدينها القانون الدولي، وحيث تتبدى المباركة في الموافقة على الأمر الواقع الذي نجم عن تلك الممارسات. وهو أمر لا يليق بدولة عظمى تنتدب نفسها للسهر على السلم والأمن في عالمنا.
ومن الغريب حقاً أن تبدي السفيرة في هذا المعرض استخفافها بحالة شبه الإجماع الدولي في رفض قرار الرئيس ترامب بخصوص القدس، وأن تذهب إلى القول إنها لن تصغي لاعتراضات من دول فاقدة للمصداقية، فهل دول مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا والسويد هي دول فاقدة للمصداقية؟ من هم، إذن، شركاء الولايات المتحدة في العالم؟ وكيف ترتضي الولايات المتحدة ل«نفسها» أن تقف خارج الإجماع الدولي على الضد منه وفي معاكسته، وتتخذ موقفاً نشازاً لم يملك أحد بمن في ذلك أقرب أصدقائها إليها، مجاراتها فيه لفرط شذوذه وغرابته؟.
لقد كان من الطبيعي مع الانزلاق إلى اتخاذ هذا الموقف أن تواجه الولايات المتحدة العزلة في أكبر محفل دولي وهو الأمم المتحدة. وعوض القيام بمراجعة ذاتية للموقف، فقد استسهلت السفيرة هيلي الهجوم على المنظمة الدولية حيث زعمت أن الأمم المتحدة لم تخدم عملية السلام بل فاقمت الأوضاع. وهو استنتاج يثير العجب. فقد رفض حليفها في «تل أبيب» الالتزام بالاتفاقيات المبرمة مع الجانب الفلسطيني واحتكم إلى السطو المسلح، ورفض هذا الحليف مبادرة السلام العربية (الأرض مقابل سلام شامل مع 22 دولة عربية) ومع ذلك لا تجد السفيرة من تلومه سوى المنظمة الدولية، ذلك لأن الحليف في «تل أبيب» هو خارج القانون وفوق القانون، ويحق له ما لا يحق لغيره في العالم ومهمة أمريكا هي التستر على خطايا ذلك الحليف، ووضعه على الدوام خارج أي مساءلة أو محاسبة ناهيك عن العقاب، ثم منحه مكافآت سخية وآخرها الاعتراف بالمدينة التي استولى عليها كعاصمة له.
لقد كانت عملية السلام منذ سنوات ضحية للتعثر. وما أقدمت عليه واشنطن مؤخراً هو وأد هذه العملية، على طريقة الطبيب الجراح الذي بدل أن «يقتل» المرض، فإنه يقوم بقتل المريض. وقد وجّه بالفعل قرار البيت الأبيض بشأن القدس، ضربة قاتلة للعملية السلمية، التي يقع وضع القدس في القلب منها. وبما أنه لا يمكن أكل الكعكة والاحتفاظ بها في الوقت نفسه، فإن الحديث عن عملية سلمية في ضوء ما جرى سيتحول إلى كلام في الهواء تذروه الرياح، والذكي حقاً هو من يحترم ذكاء غيره.

mdrimawi@yahoo.com

Original Article

زر الذهاب إلى الأعلى