الرأسمالية الأمريكية وأزمة الديمقراطية
تأليف: آلان ناصر
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
يعاني الشعب الأمريكي اليوم الأخطاء السياسية والاقتصادية الناجمة عن الرأسمالية، إذ باتت ديمقراطيته في مهب الريح، وحقوقه تحت نير استبداد رأسمالي يتطور وينمو يوماً بعد الآخر. ويحاول الكاتب في عمله هذا أن يسلط الضوء على أزمة الديمقراطية في الولايات المتحدة ومدى ارتباطها بالاقتصاد السياسي، وكيفية العمل على التغلب على هذه القوة العاتية التي تعصف بالشعب الأمريكي.
يبحث البروفيسور آلان ناصر في كتابه «اقتصاد مفرط النضج: الرأسمالية الأمريكية وأزمة الديمقراطية»، الصادر حديثاً عن دار «بلوتو» في 320 صفحة موزعة على مقدمة وسبعة فصول وخاتمة، عبر استعراض بانورامي للتاريخ السياسي-الاقتصادي لبدايات الرأسمالية التنافسية في الولايات المتحدة منذ القرن التاسع عشر. ويتقصى تطور ونضج الرأسمالية الصناعية في العشرينات، وصعود وسقوط العصر الذهبي للرأسمالية، وما تلا ذلك من انحدار.
ويحاول ناصر تبيان أسباب سياسات التقشف الذي تفرضه الرأسمالية «الناضجة» باقتصادها المفرط، ويكشف نقاط الضعف الهيكلية والسياسية الرئيسة للرأسمالية، ويشير إلى نوع النظام الذي يمكنه تجاوز هذه الحالة الاقتصادية والتاريخية والاجتماعية.
بدايات الرأسمالية
يتبع المؤلف أسلوب العرض التاريخي ضمن سرد للأحداث الأساسية التي أحاطت ببداية الرأسمالية في الولايات المتحدة. يقول في المقدمة: «قبل ثمان وثمانين سنة، كابدت الرأسمالية الأمريكية، وتبعها بعد ذلك بقية النظام العالمي، ما سيعدّ حتى اليوم أكبر أزمة وتحول تاريخيين. في سبتمبر/ أيلول 2008، تعرض النظام لأزمته ومرحلة تحوله الثانية، التي يطمح هذا الكتاب لاستعراض وإلقاء الضوء على أصولها، طبيعتها وآفاقها المستقبلية المحتملة، عبر السرد التاريخي بدءاً بالثورة الصناعية في القرن التاسع عشر».
ويضيف: «إننا نعيش اليوم في عصر مختلف كلياً عن التسوية الديمقراطية الاجتماعية التي تمظهرت في جميع الدول الرأسمالية المتقدمة بعد الحرب العالمية الثانية. وقد سميت فترة ربع القرن التي تلت الحرب بالطفرة الكبيرة، أو العصر الذهبي. وكانت تلك هي الفترة الوحيدة التي لم يشهد تاريخ الجمهورية الأمريكية فيها انكماشاً اقتصادياً حاداً، بل أتاحت للأمريكيين البيض أعلى مستويات المعيشة في التاريخ العالمي. إن الفترة الراهنة من النمو البطيء، أو الكساد في الاقتصاد الإنتاجي فرضت التقشف على العاملين. إذ خضعت الطبقة العاملة لمستويات معيشية متدهورة، إضافة إلى حالة متزايدة وقياسية من عدم التكافؤ، وغياب الوظيفة الآمنة بدوام كامل، وظهور العمل بدوام جزئي، مع انتشار ظاهرة العمل العرضي الذي لا يعود بالفائدة على ممارسيه في قطاع عريض من الوظائف، فضلاً عن الاقتصاد المكرس للدّين، والدولة القمعية المعسكرة».
ويرى المؤلف أن ذلك التقشف لم يأت من الغيب، وهذا يقع في عمق ما يريد الكتاب إيضاحه؛ استعراض صعود أيام الرخاء، وانتهاءها، ونشأة رأسمالية التقشف المالي، وتبين البديل المستقبلي الأكثر تطلعاً لما يراه نوعاً من التقشف الدائم والقمع الحكومي. كما يرى أن «الديناميكيات التاريخية المناقشة في هذا الكتاب يمكن أن تشير إلى مستقبلين للرأسمالية الأمريكية: إما المضيّ في التقشف الكابح للعمال، أو مجتمع متأسس بالانتقال من الاستثمار الخاص إلى العام».
مستقبل ما بعد رأسمالي
يعدّ هذا الكتاب توسيعاً وتنقيحاً لمقالة طويلة كتبها المؤلف عام 1976 بعنوان «فجر الرأسمالية: ملامح حقبة منبعثة»، وتنبأ فيها ببعض الملامح الرئيسية لبزوغ عصر التقشف. ووصفت المقالة الشكاوى العملية المتكررة في الستينات والسبعينات بأن العمل قد حصل على الكثير من القوة قياساً برأس المال، وأن على أفراد الطبقة العاملة أن يتعلموا التعامل مع مكتسبات أقل مما كانوا يحصلون عليه خلال العصر الذهبي.
كما ناقشت المقالة النهاية الوشيكة لارتفاع الأجور، واقتراب النمو المنخفض قياساً بما عاشه الأمريكيون منذ نهاية الحرب، فضلاً عن المستويات المتصاعدة للدَّين بالمقارنة مع المداخيل. لكن ماذا عن نهاية الرأسمالية؟ لا يبدو أن المقالة تتناولها. لا أزمة اقتصادية يمكنها التبشير بنهاية الرأسمالية. وحدها الطبقة العاملة ذات التعليم الجيد، والنشاط المنظم يمكنها خلق الانتقال إلى مستقبل ما بعد رأسمالي». وعن هدفه من النقاش يقول ناصر: «يتمثل هدفي الرئيس في تقديم سرد تاريخي يقوم بوصف أصول وسياق الأزمة الجارية، ويشير كذلك إلى البدائل المحدودة التي يضعها التاريخ أمامنا».
الثورة الصناعية الأمريكية
تتطور فكرة هذا الكتاب عبر تتبع انبثاق رأسمالية التقشف الممولة من الثورة الصناعية الأمريكية في القرن التاسع عشر حتى اليوم. ويعرض المؤلف للفكرة أن الرأسمالية الممولة وإيديولوجيتها، النيوليبرالية، هي نتاج النزعات البنيوية المتأصلة في السيرورة التطورية الرأسمالية، ويقول في هذا السياق: «تتطلب السردية التاريخية التي يقدمها هذا الكتاب تقسيماً زمنياً حقبياً… من النقاط الأساسية لتلك السردية تطور ما أسميه «محفزات إطار العمل»، التي أعني بها: التقنيات والاختراعات (المحرك البخاري، السكك الحديدية والسيارات)، والمشاريع (بناء المجمعات الصناعية العسكرية) التي يقدم ربطها بقطاع واسع من الصناعات طلباً كبيراً على النطاق الوطني لضمان فترات مستدامة أطول من النمو الاقتصادي. إذ إنه من دون هذه المحفزات طويلة الأمد، لن يستطيع الاقتصاد الوصول لمعدلات نمو كافية لتأمين عمالة كاملة وأجور عالية».
يستعرض الفصل الأول الفترة بين عام 1865 و1907؛ وهي فترة تراكم رأس المال، الثورة الصناعية الأمريكية، التي بنت الدولة خلالها بنيتها التحتية الأساسية، ثم السنوات اللاحقة حتى عام 1920، التي شملت الركود الكبير 1904-1917، الحرب العالمية الأولى والنضال العمالي.
عنف رأس المال
ويدرس الفصل الثاني الملامح البارزة لعلاقات رأس المال – العمل والمحاولات التي قام بها العمال لتطوير قوتهم عبر النقابات والاتحادات من بداية العصر الصناعي، مروراً بالعقدين الأولين من القرن العشرين. «وبالنظر إلى أن كل تحسين أساسي وحماية حقيقية حصل عليها العمال كانت تاريخياً بسبب الإضرابات، فإن هذا الفصل يتقصى استمرارية النضال العمالي خلال هذه الفترة والعنف الشديد الذي فرض على العمال في المقابل من كلّ من القوات الحكومية وغير الحكومية. ولطالما كانت العلاقة بين العمل ورأس المال في الولايات المتحدة أكثر عنفاً بكثير مما كانت عليه في أي دولة متقدمة أخرى».
فيما يتناول الفصل الثالث فترة العشرينات، وهي الفترة التي شهدت استكمال إنجاز الثورة الصناعية الأساسية. «فبعد الكساد الكبير بين 1920 و1922 الذي تلا الحرب، ازدهى الاقتصاد بفترة الرخاء الأولى من النمو بعد الثورة الصناعية، وذلك في الفترة بين عامَي 1923 و1929، التي حلّ فيها الاستهلاك مكان الاستثمار كالقوة الدافعة الرئيسة للنمو الاقتصادي والعمالة. ومع إنتاج البضائع التي يحتاجها المستهلك، أضحت السلع، وبخاصة البضائع المعمّرة، كالسيارات والثلاجات وأجهزة الراديو وآلات التصوير الفوتوغرافي، تشكّل القطاع الأوسع من المنتج الاقتصادي، ولتحلّ بهذا مكان السلع الرأسمالية. كما أن نوعية العمل ذاته قد حصل فيها انزياح مستمر؛ من التصنيع، أسرع الصناعات نمواً، إلى الخدمات. حينها، تشكلت قطاعات شعبية فائضة من البطالة، والبطالة المقنعة، وبدأت بالازدياد.
أما السبب الأساسي الكامن وراء هذا فهو واضح: إذ إن الإنتاج والإنتاجية قد حققا ارتفاعاً كبيراً، في حين بقيت الأجور على حالها. وبهذا فقد تركز ناتج الدخل القومي بين الأكثر ثراء. أما أغلبية الشعب فكانت على خط الفقر، أو تحته، وكان الاستهلاك العالي «للعشرينات الجامحة» ممكناً فقط عبر الدّين الكبير والمتزايد. وفي عام 1928، بلغت البطالة واللامساواة أعلى مستوى لها في القرن العشرين. وليس من قبيل الصدفة أنه في العام التالي بدأت البوادر التي ظهر جرّاءها الكساد الكبير في الثلاثينات».
مخاوف روزفلت
يناقش الفصل الرابع فكرة الكساد الكبير، النتاج الطبيعي للتناقضات البنيوية والطبقية للعشرينات، ويكشف المحافظة المالية العميقة لفرانكلين روزفلت، وهي الإرث الذي تركه للحزب الديمقراطي من بعده. لم تكن حدّة الكساد كافية لتحفيز روزفلت على المبادرة بإطلاق الصفقة الجديدة الثانية. كانت الإضرابات الواسعة التي عمّت البلاد أواسط الثلاثينات والخوف من الثورة ما سيطر على الرئيس وزعزع ثقته».
كما يقول الكاتب في هذا الفصل: «يبدو من المتفق عليه عالمياً أن نظام ما بعد الحرب قد أوضح انتصار الأفكار الاقتصادية التي جاء بها جون ماينارد كينز، إذ إن الديمقراطية الاجتماعية و»دولة الرفاه» بنيتا على أساس النظرية الكينزية الاقتصادية التطبيقية». لكن الكاتب سيفنّد في هذا الفصل ما يرى أنه «خطأ شائع وبعيد الأمد». ويختتم الكاتب الفصل بمناقشة العلاقة بين النظرية الكينزية ومسألة الكساد. وسنرى بأن كينز قد تنبأ بضمور صافي الاستثمار على المدى البعيد في تطور الرأسمالية الناضجة، وهذه تعدّ من النقاط الرئيسة في التسلسل الجدلي الذي يطرحه الكتاب.
وكرّس المؤلف الفصل الخامس لتوصيف صعود، ثم سقوط العصر الذهبي، أو الطفرة الكبيرة، الفترة غير المسبوقة من الازدهار قائلاً: «حاولت فترة بعد الحرب استعادة إنجازات الصفقة الجديدة، ولم يكن الهجوم على اتحادات العمال، والتحول الكبير الذي حصل في مجال الأعمال أواسط السبعينات لإبطال «دولة الرفاه» سوى استجابات للأعمال العمالية العظيمة التي حصلت في الثلاثينات، وللنضال العمالي. لقد تجسد نجاح المحاولات التجارية والحكومية لكشف تسوية الصفقة الجديدة/المجتمع العظيم من خلال تيسيرها عبر ثلاثة تطورات مؤثرة، ونعني هنا خفض التصنيع، وهو ما تحقق في جميع الدول الرأسمالية المتقدمة، ثم تمويل وريجنة (نسبة للرئيس الأسبق رونالد ريجان) الحزب الديمقراطي، وهو ما أنجزه بشكل حاسم بيل كلينتون، واستمر به باراك أوباما. أرى أن هذه التهجمات على العمال كانت مدفوعة بشكل رئيسي من إعادة التوزيع التنازلي للدخل خلال تسوية الصفقة الجديدة/المجتمع العظيم عبر النشاطات العمالية ولاسيما الإضرابات».
ديمقراطية الشعب
في الفصلين السادس والسابع، يقدم الكاتب التحليل التاريخي والاقتصادي-السياسي للفصول الخمسة السابقة مجتمعة، في مناقشة مستفيضة عن اقتصاد الفقاعة المالية والركود. كما يناقش الكاتب فكرة «استبعاد القوى العاملة من قطاعات الخدمة والتصنيع التي تزايد دخول الأتمتة والروبوتات (وهو أمر سهّلته وأتاحته رقمنة الابتكارات)، إضافة إلى خلق قطاعات شعبية من العمالة غير المستقرة ذات الأجور المنخفضة.» وبحسب ناصر: «يتمثل الهدف الذي يجب أن تسعى إليه الطبقة العاملة في ديمقراطية الشعب، على المستوى الاقتصادي والسياسي، هو التميز بالملكية الاجتماعية والتحكم بوسائل الإنتاج وعائد دخل مريح وأسبوع عمل قصير وانتخاب ممثلين سياسيين. هذا هو، وفق ما يرى ويناقش في هذا الكتاب، البديل الوحيد المنظور لمعدلات العيش المتهورة بازدياد، والنمو البطيء الذي يتلو اقتصاد الفقاعة والدّين، وما يتلو ذلك من أزمات اقتصادية واقعية.
في الخاتمة، يقترح أنها وحدها مقاومة الطبقة العاملة المنظمة والأهداف الاشتراكية الديمقراطية الواضحة، مع بعض التنظيم العمالي الرسمي، الذي قد يكون أو لا يكون عبر الحزب السياسي، يمكنها التغلب على مقاومة الطبقة الحاكمة للديمقراطية وتأسيس ديمقراطية اشتراكية تقوم على المساواة.
نبذة عن المؤلف
*يشغل آلان. ج. ناصر موقع بروفيسور فخري لمادة الاقتصاد السياسي والفلسفة في كلية ايفرجرين في أولمبيا(واشنطن). ألقى العديد من المحاضرات في جامعات حول العالم، من ضمنها جامعة أوكسفورد. كرّس كتاباته في العقود الثلاثة الماضية للقضايا الاقتصادية والسياسية، والنظرية القانونية، الفلسفة والتحليل النفسي. يكتب بانتظام في مواقع مهمة مثل «كاونتر بانتش»، و»مَنثلي ريفيو». اختيرت مقالته أنثروبولوجيا ماركس الأخلاقية (التي كتبها عام 1975) من أعضاء الجمعية الفلسفية الأمريكية بين أفضل خمسين مقالة كتبت عن ماركس بين 1950 و2000.