الشعر والرواية والسوق
يوسف أبو لوز
يتساءل الناقد الكويتي «براك القعيط» في مقالة منشورة له مؤخراً «هل يتاح لكل شاعر أن يصبح روائياً»؟ ويشير إلى أن الجاحظ كتب قبل قرون عن الذين يستسهلون التحول من جنس أدبي إلى آخر، غير أن أكثر ما يبعث على الحسرة في مقالة القعيط أن أحد الناشرين قال له «لا نريد شعراً، فنحن نرحب فقط بالروايات، الشعر لم يعد له سوق، بينما السوق الرائجة أصبحت للروايات.. وأياً كانت».
أولاً: كيف لناشر يعمل في حقل الثقافة أن يربط بين الشعر والسوق، الشعر مادة قلبانية روحية جمالية، والسوق يعني التجارة، والتجارة تعني الربح والخسارة، وما من شاعر حقيقي وبمعنى الكلمة يضع في حسبانه ذات يوم الربح أو الخسارة، والسوق «الشعرية» الوحيدة التي لم تكن تحسب حساباً للأرباح والخسائر كانت سوق عكاظ في الجزيرة العربية قبل مئات السنوات، وهي سوق نقدية أو بالأحرى إعلامية يعرف الشاعر خلال انعقادها في ما إذا كان شاعراً مجوداً، وبالتالي الاعتراف به، أم أنه سيظل يركض وراء سراب الشعر في الصحراء.
هكذا، للأسف، سيطرة فكرة السوق على بعض الناشرين من عرب وحتى أجانب، ليجري في ضوء ذلك، انتقاء العنوان بحسب ما وراءه من كسب للمال؛ لذلك، نقرأ من وقت إلى آخر عما يُسمى القرصنة، والترجمات المنقولة من دون إذن خطي أو شفوي من المؤلف الأصلي في سوق النشر، التي ينمو فيها طفيليون على شكل ذلك الناشر الذي تحدث للناقد القعيط.
لكن، لا نضع كل الناشرين في خانة واحدة، فهناك ناشرون أخلاقيون ومهنيون يمنعهم سلوكهم الثقافي النظيف من الاستسلام لفكرة السوق في مستويي الربح والخسارة، وبالطبع، لا يعني ذلك أن الناشر يشتغل في قطاع صناعة الكتاب وعليه ألّا يربح؛ بل من حقه أن يربح، فالنشر في نهاية الأمر صناعة ومهنة تدر المال، ولكن ليس على طريقة السوق التي «تعدم» الشعر وتضيق عليه النشر، وكأنه سلعة.
ثانياً: وبالعودة إلى سؤال: «هل يتاح لكل شاعر أن يصبح روائياً؟؟».. يمكن القول اجتهاداً، نعم، يتاح للشاعر أن يكتب الرواية، والسيرة، والمذكرات، والاعترافات. والشاعر الجيد ناثر جيد، وكان في داخل محمود درويش روائي لم يولد وبقي في رحم الشعر، ومن قرأ «اعترافات مالك بن الريب» للشاعر العراقي يوسف الصايغ يقرأ رواية في شكل من أشكال توهج السرد، وتداعياته الغنائية الكاشفة.. لكن، هنا سؤال آخر معكوس «هل يتاح لكل روائي أن يصبح شاعراً؟؟» والجواب سريعاً، وبلا اجتهاد هذه المرة.. إنه من الصعب على روائي ولد روائياً ومشروعه الرواية، وحياته الرواية أن يتحول إلى الشعر، ويترك خلفه هرمه السردي الذي بناه حجراً وراء حجر.
لا أعرف روائياً مكتمل الرؤية والمشروع والفكرة واللغة تحول إلى شاعر واشتغل على مشروع شعري؛ لكن نعرف أن مئات الروايات في نصوصها الناضجة المكتملة تتغذى على الشعر، وتحتمي به وتعود إليه في لحظة الكتابة.
في الروايات الكبيرة العظيمة الإنسانية الفكرية الفلسفية يظهر الشعر، مثل وجوه النجوم، ولكن هذا لا يعني أن الروائيين شعراء.
yabolouz@gmail.com