العالم كما هو
تأليف: بن رودس
عرض وترجمة: نضال إبراهيم
على مدى ما يقرب من عشر سنوات، رأى «بن رودس» تقريباً كل ما يحدث في قلب إدارة أوباما؛ أولاً ككاتب خطابات، ثم كنائب لمستشار الأمن القومي، وأخيراً كمساعد مقرّب متعدد الأغراض. كان يبدأ يومه كل صباح في المكتب البيضاوي مع أوباما للاطّلاع على آخر المستجدات، ويسافر معه إلى الخارج، وكان في قلب بعض اللحظات الأكثر إثارة للجدل. الآن، وفي هذا العمل، يروي القصة الكاملة لشراكته، ثم صداقته مع رجل تصادف أنه رئيس تاريخي للولايات المتحدة.
يأتي هذا العمل مليئاً بتفاصيل من شخص كان كاتباً قبل أن يكون موظفاً، ولهذا يتمتع الكتاب بنظرة نادرة في أكثر اللحظات المؤثّرة، والحاسمة، والإيجابية لرئاسة أوباما، من كيفية انتظار تنفيذ الغارة على «بن لادن» في غرفة العمليات، إلى كيفية الاستجابة إلى أحداث ما يسمى «الربيع العربي»، والتوصل إلى اتفاق نووي مع إيران، وإجراء مفاوضات سرية مع الحكومة الكوبية لتطبيع العلاقات، ومواجهة تجدّد القومية والشعبوية التي بلغت ذروتها خلال انتخاب دونالد ترامب.
يتحدث الكاتب فيه عن مذكراته في البيت الأبيض ومع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وخفايا ما كان يحدث عند الزيارات الخارجية. ويتناول رودس الأيام الأولى لحملة أوباما وحتى الساعات الأخيرة من الرئاسة. الكتاب يعكس قصة واقع الرئاسة الأمريكية التي تسكنها شخصيات مثل سوزان رايس، سامانثا باور، هيلاري كلينتون، بوب جيتس، وقبل كل شيء باراك أوباما.
ويأتي هذا العمل الصادر حديثاً عن دار «راندوم هاوس» في 480 صفحة، في أربعة أقسام هي: الأول: الأمل: 2007-2010. الثاني: الربيع: 2011-2012. الثالث: التغيير: 2013 -2014. الرابع: ما الذي يجعل أمريكا عظيمة: 2015-2017.
السياسة الخارجية الأمريكية
اخترنا من هذه المذكرات ما يمكن أن يعطي صورة دقيقة وواضحة عما كتبه، ونتوقف في القسم الأول، وتحديداً عند الفصل الخامس منه بعنوان «القاهرة»، البلد الذي ألقى فيه أوباما خطابه في الشرق الأوسط بعنوان «بداية جديدة»، يركز الكاتب فيه على السياسة الخارجية الأمريكية، ويتسم بأهمية لنا كقراء في المنطقة العربية، وما سبقها يعتبر حديثاً عن بداياته الشخصية، ويبدأ بالحديث عن السياسة الخارجية الأمريكية قائلاً:
إنها استثمار بتريليون دولار يعمل بشكل يومي، ويجتاح واقع الناس ويخوض عبابه، مشكلاً حياتهم وفق هذه الحركة سواء كانوا على دراية بذلك أم لا. تحاول السفارة في نيودلهي مساعدة المشاريع التجارية الأمريكية في دخول السوق الهندية. تلتقي جهود بعثة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية USAID
في نيروبي مع وزارة الصحة الكينية للمساعدة في مكافحة فيروس نقص المناعة المكتسب (الإيدز).
يسافر طالب منحة دراسية من إندونيسيا على متن طائرة نحو جامعة أمريكية. تنفذ القوات العسكرية الأمريكية تدريبات مشتركة مع كوريا الجنوبية في مواجهة كوريا الشمالية. تتشارك مؤسستنا المخابراتية مع الأوروبيين المعلومات عن مخطط هجوم إرهابي. يغادر عنصر قوات خاصة مقطورة في بغداد عند الفجر للقبض على إرهابي أو لقتله. يمول دافع الضرائب صفقة طائرات F-16 ستسلم للجيش المصري. تجري هذه الأحداث ضمن سياقها الخاص، المتجذر داخل مجموعة واسعة ومعقدة من التوظيفات، والتحالفات، والاتفاقات الدولية وقرارات الموازنة التي يمكن أن تكون قد اتخذت قبل شهر، سنة أو عقود مضت.
تساهم هذه الحقيقة في الشيزوفرينيا العرضية، لأن سياستنا الخارجية تمثل نظرة خاصة للمصالح الأمريكية في الوقت الذي اتخذت فيه قرارات محددة. وبهذا فإن وزارة المالية لدينا تفرض على التجارة مع كوبا حظراً وُضع منذ الستينات حتى مع محاولة الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية تقديم أجهزة الهاتف والطابعات للمنشقين هناك، مع أنها ستكون متوفرة بشكل أكبر وأسهل من دون حظر.
تخوض قواتنا حرباً على الإرهاب في أفغانستان في مطلع الألفية ضد «جهاديين» سلحتهم الولايات المتحدة في ثمانينات القرن الماضي، واحتفت بهم آنذاك كمقاتلي الخطوط الأمامية خلال الحرب ضد الشيوعية. أما دبلوماسيونا فيحاولون عقد اتفاق سلام «إسرائيلي»- فلسطيني، فيما يمول دعمنا الخارجي الجيش «الإسرائيلي» الذي يعزز من احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينية.
إننا نحافظ على هذه الاستثمارات لاعتقادنا، بشكل عام، أن الناتج يستحق، حتى إن اضطررنا أحياناً للمعاناة من الخسائر، الإرباكات والتوافقات الأخلاقية.
شبكة التحالفات
لقد أتاحت شبكة التحالفات العسكرية الخاصة بنا، المجال لنمو ديمقراطيات مزدهرة في أوروبا وآسيا، ولتجنب وقوع حرب عالمية أخرى بين القوى الكبرى منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، حتى مع تحديها لدول مثل روسيا والصين، لكن هذا الأمر دفع الدولتين للتحالف ضدنا.
لقد ساهمت اتفاقيات المساعدة والتجارة الخارجية على حدوث تحسينات سريعة في الكيفية التي يعيش الناس فيها في أرجاء عديدة من العالم، من ضمنها الولايات المتحدة، حتى مع ما فرضته العولمة من استبعاد الوظائف، وصناعات أمريكية بأكملها، وتجاوز المشاعر الشعبية للقبلية والإيمان والأمة. لقد صعّبت أجهزتنا العسكرية والاستخباراتية الوضع على الحكام الديكتاتوريين لامتلاك أسلحة نووية أو على الشبكات الإرهابية لامتلاك ملاذات آمنة، حتى وإن كانت أفعالنا أحياناً تغذّي المظالم التي ينجح الديكتاتوريون والإرهابيون في توظيفها واستغلالها.
لذلك فبالنسبة لأي رئيس، يمثل تنفيذ السياسة الخارجية مزيجاً غريباً من إدارة الظروف التي ورثتها، استجابة للأزمات التي تحدث خلال فترة وجودك. ناهيك عن انتهاز الفرصة المناسبة حول أين تريد إطلاق المبادرات التي ستترك تأثيرها على العالم.
كان أوباما فريداً لمجرد الحقيقة المتعلقة بكون أن هويته كانت ستترك بصمة على الناس في الخارج. فبالإضافة إلى كونه الرئيس الأمريكي، فقد كان رمزاً لطموحات وتطلعات مليارات الناس، وبخاصة الأقليات الإثنية في أرجاء العالم والشباب في العالم النامي. ولهذا السبب خصصنا له الوقت لإدماج الشعوب التي لم تكن بالعادة تجتمع برئيس أمريكي، وللعب كرة القدم في الملاعب الشعبية في البرازيل، وللقاء أفراد من الداليت في الهند، أو زيارة مركز للاجئين في ماليزيا.
ولهذا السبب أنشأنا برامج له لإدماج الشباب، خاصة في المنطقتين المرتبطتين بشكل وطيد بخلفيته، إفريقيا وجنوب شرق آسيا. كما أن هذا من الأسباب التي دفعتنا للتركيز كثيراً على الكلمات التي قالها في الخارج. «إننا نروي قصة»، كما قال لي في سنته الأولى، «عمّن نكون».
التخاطر الذهني
على مر السنوات، كان جزء كبير من سلطتي داخل البيت الأبيض مرتبطاً بتصور أن أوباما وأنا، كان لدينا شيء من «التخاطر الذهني»؛ بحيث كان بمقدوري توقع ما سيقول أو يفعل في قضية بعينها، أو أنه قد وثق بي للتحدث باسمه. كان هناك، بالطبع، اختلافات كبيرة في الخلفيتين اللتين جئنا منهما، ناهيك عن الفرق الشاسع في مسؤولياتنا. لكنني بدأت أرى بعض التماثلات في شخصيتينا.
كان لكلينا مجموعات كبيرة من الأصدقاء لكننا أبقينا على حسّ الخصوصية الذي يمكن أن يقود الآخرين ليروا واحدنا متحفظاً ومنعزلاً. كان كلّ منا يحاول إثبات شيء لأبيه، كما امتلك كل منا التربية والتشجيع من والدته. فكّر كل منا بنفسه كلامنتمٍ، حتى عندما كنا في البيت الأبيض. كان كلانا عنيداً، وهي ميزة تخولنا الخوض في المخاطر لكنها تدفع للوقوع في الغطرسة. تصرف كلانا كما لو أننا لم نكن نهتم برأي الآخرين فينا، لكننا كنا نهتم فعلاً.
لكن هذه التماثلات لم تشكل في الواقع سوى جزء صغير من الصورة الأوسع، حقيقة أنني كنت شريكاً صغيراً عمل بجدّ لفهم ما أراد رب عملي مني أن أقول وأفعل في العالم. جاء باراك أوباما إلى السلطة برؤية عالمية تختلف عن نظرة أسلافه ونمط الأشخاص (الذكور البيض في الغالب) الذين شغلوا مناصب أمن قومي رفيعة، وسط تعقيدات السياسة الخارجية الأمريكية.
فرادة أوباما
ويعود الكاتب إلى خلفية أوباما ومدى التنوع الذي امتلكه، وأثّر في نفسيته، وليتمكن من الجمع بين العديد من التعقيدات، قائلاً: ولد أوباما في هاواي، وهي مستعمرة أمريكية سابقة يحطّ فيها الأسطول الأمريكي في المحيط الهادئ. كما أنها تمثل المواطَنة المتنوعة، وتعدّ جسراً بين المحيط الهادئ الذي أصبح أمريكياً وشرق آسياً. خدم جده في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، وساهم عم والده في تحرير معسكرات الاعتقال في بوخنفالد. عاش في إندونيسيا طفلاً، بعد بضعة سنوات من بدء الانقلاب العسكري الذي دعمته الولايات المتحدة، والذي تسبب بمقتل آلاف الأشخاص، وهو حدث يبدو بالكاد مسجلاً في الولايات المتحدة، إلا أنه يشكل نفسية دولة خارجية. عملت والدته في مساعدة النسوة على كسب عيشهن من حياكة الملابس والسلال وراء حدود العالم النامي.
نشأ والده خلال تحرر كينيا من الإمبريالية البريطانية، وتعلم في بعض من أفضل الجامعات الأمريكية. عند عودته إلى نيروبي، انتهى به الأمر مهمشاً كأحد أعضاء أقلية قبيلة لوو، شخص تكنوقراطي اصطدمت في داخله الأفكار الغربية مع ثقافة فساد ومحسوبية، فأصبح في النهاية منكسراً، عاطلاً ومدمناً على الكحول، ثم مات في حادث سيارة. وأصبح أوباما، بالطبع، مرتكزاً على هويته كأمريكي إفريقي، وانضمّ بالتالي لسياق أولئك الذين عانوا من الاضطهاد لكنهم نجحوا في تحقيق التغيير من خلال التعبئة السلمية واللاعنف.
لذا فإن كلاًّ من جوانب القوة الأمريكية، ودورها في حياة الناس منذ الحرب العالمية الثانية تكمن في مكان ما داخل الخلفية التي جاء منها أوباما؛ قدرتنا على الحفاظ على السلام في الخارج وتعطيله، قدرتنا على تحويل حياة الأفراد من خلال كرمنا وقسوتنا في الآن ذاته، جاذبية قيمنا الديمقراطية وتقصيرنا في تحويلها إلى واقع. لكن غرابة هذه الخلفية بالنسبة لكثير من الأمريكيين تركت المجال أمام الناس لإساءة الفهم أو إساءة تقدير كيف أثر ذلك في نظرته تجاه السياسة الخارجية الأمريكية.
معارضة انعكاسية
وبالنسبة لبعض ممن في اليمين، كانت تلك علامة على وجوب أن يقيم معارضة انعكاسية للقوة الأمريكية؛ ويجب أن يكون كينياً مناهضاً للكولونيالية، وأحد المتعاطفين من أمثال فيدل كاسترو وياسر عرفات. لكن تجربة عائلة أوباما ذاتها أظهرت أن التحرر من دون مؤسسات ناضجة يهيئ شكلاً خاصاً من الاضطهاد، كما أن الفساد والقبلية سيطغيان على حياة الفرد.
نعم، يؤمن أوباما بتحرر الشعوب، لكنه مؤسساتيّ في العمق، شخص يؤمن بأن التقدم سيكون أكثر استدامة إذا ما اقترن بالقوانين والمؤسسات و- إذا دعت الحاجة- القوة. ولبعض من كانوا في اليسار، كانت هناك صورة معكوسة، توقع أن أوباما سيكون معادياً لحالة الأمن القومي في أمريكا. نعم، كان لديه قلق أعمق حول الوصول والتأثير، وحول كيف تؤثر سياساتنا على الناس في أماكن مثل إندونيسيا، الأسلوب المتسرع الذي فشلنا فيه، من فيتنام إلى العراق، في التفكير بعواقب أفعالنا، ومخاطر السلطة التنفيذية غير المقيدة.
لكن أوباما آمن بقوة مستقرة وذات كفاءة بضرورة اتخاذ قرارات تنفيذ أعمال عسكرية ضد شبكات إرهابية محددة، والاستفادة من العولمة في انتشال الناس من الفقر، ومدى أهمية الولايات المتحدة الأمريكية للنظام العالمي. أراد إعادة توجيه سفينة السياسة الخارجية الأمريكية، لا إغراقها. لكن بالنسبة لكُثر في الحكومة، لم تعنِهم رؤية الرئيس العالمية. فلكل جهازٍ مصالحُه التي لا تتغير مع تغير الرئاسة. والجيش يريد المزيد من حرية التصرف والحركة. أما وزارة الخارجية فتريد المحافظة على العلاقات والترتيبات القائمة. وجهاز الاستخبارات يريد المزيد من القدرات. الكل يريد المزيد والمزيد من المال، المزيد من الأشخاص والمزيد من الدعم من البيت الأبيض.
عادة، يضغط الرئيس لتمرير أجندته عبر قيادة هذه المؤسسات. لكن أوباما تسلم منصب الرئاسة من دون تأسيس مجموعة من العلاقات مع نوع الأشخاص الذي يتولى هذه الأعمال، على اعتبار أنه لم يكن في واشنطن إلا منذ ما مجموعه أربع سنوات فقط. ومعظم الأشخاص الذين شغلوا المناصب العليا في وزارة الخارجية والبنتاجون خلال رئاسة أوباما، كانوا في الواقع من الأشخاص الذين لم يسبق له لقاءهم.